تجاذبنا أطراف الحديث أنا وصديقتى الألمانية فى حين تلعب بناتنا فى ملعب الأطفال المجانى فى ساحة وسط المدينة، وحكت لى عن موقف سيئ تعرض أسرتهم له وهم فى المطار متأهبين للسفر بحقائبهم إلى أمريكا لقضاء الأجازة السنوية سوياً كأسرة، فقد رفضت شركة الطيران أن تقلهم على الطائرة لأن ابنتهم ذات الأربع سنوات تمتلك جواز سفر مخصص للأطفال ولا يحوى نفس البيانات المفصلة التى يحويها جواز السفر المخصص للكبار، ونظراً لأن الولاياتالمتحدةالامريكية شددت من شروط دخولها مجدداً فقد منعت استخدام جواز سفر الأطفال منذ بداية عام 2011 رغم أنه لا زال سارياً، أى منذ ما يقرب أربعة شهور، فى خضم المفاجأة قررت صديقتى وزوجها تغيير مكان السفر إلى دولة أخرى للاستمتاع بالأجازة ومنعاً للنكد وذهبوا إلى جمهورية الدومينيكان المعروفة بمناخها المعتدل وبحرها الصافى، ولكن هذا الموقف كبدهم أكثر من ألف يورو ضاعت عليهم نتيجة تغيير الحجز، استرسلت صديقتى فى الحدوتة التى لم تنتهى عند هذا الحد: فبعد عودتهم من الأجازة البديلة قدمت صديقتى شكوى إلى مصلحة الجوازات فى عاصمة الإقليم الريفى الذى نعيش فيه احتوت على أسئلتها الغاضبة التى نعدها فى مصر ترفاً لا نقدر عليه: "كيف تقوم الموظفة فى مصلحة الجوازات بتجديد جواز سفر ابنتى دون أن يعلموننى أن الولاياتالمتحدة شددت من شروط دخول حدودها؟ كيف أتحمل خطأ الموظفة التى لم تخبرنى بهذه المعلومة رغم علمها أننى سأسافر مع ابنتى إلى هذا المكان مستخدمة جواز سفر لم يعد صالحاً؟"، وقدمت صديقتى طلب لصرف مبلغ الألف يورو من الدولة لأنه خطأ موظفة تعمل فى جهة حكومية، وعملاً بالتسلسل البيروقراطى فى ألمانيا قامت الموظفة برفع شكواها إلى رئيسها فرئيسها إلى أن وصلت إلى الجهة المركزية لمصلحة الجوازات فى العاصمة الفيدرالية برلين ، جاء الرد المبدئى بالبريد الإلكترونى (الإيميل) أن الشكوى محل الدراسة، ويتم بحث اختصاص مصلحة الجوازات وإن كان الخطأ يقع على موظفتهم أم لا، وأنه مبدئياً لا يقع على مصلحة الجوازات الالمانية مسئولية الدخول إلى الدول الأخرى وإنما فقط الخروج من جمهورية المانيا الاتحادية...رد ألمانى بيروقراطى أصيل، دبلوماسى ومهذب ولكنه لا يحمل جديد، بعد مكاتبات بالإيميل من هنا وهناك وبعض التفاوض تبدأ المشكلة فى الحل أن الموظفة قصرت بالفعل فى عملها ولم تحرص على مراعاة صالح المواطن، أى أن الدولة ممثلة فى مصلحة الجوازات الألمانية تتحملهذا الخطأ وبالتالى سوف تتحمل فارق التكاليف التى اضطرت الأسرة لدفعها من جيبها الخاص. بالله عليكم قولوا لى ما الدروس والعظات بل والإسقاطات التى تقع على مجتمعنا الحبيب؟ هل تهيمن عليك فكرة العدالة وتحمل المسئولية من قبل الدولة عن مصالح مواطنيها؟ ام أنك انبهرت مثلى بالاحتراف فى التعامل وعدم الاستهزاء بمضمون الشكوى فلم تسمع صديقتى عبارة "تعويض إيه يا مدام. احمدى ربنا إنكم لاقيين تتفسحوا" على شاكلة مقولة موظفة المصرية ندى فى تعاملها مع أسر الشهداء لصرف مستحقاتهم؟ أو ربما عزيزى القارئ وعزيزتى القارئة قد توقفتم عند استخدام الجهات الحكومية العامة فى عواصم أرياف ألمانيا للبريد الإلكترونى فى المراسلات دون سركى الوصول أو ضياع ملفات المواطن الورقية فى الدرج او الأرشيف أو الإصرار على ختم النسر والدمغة وغيره من مبتليات العمل الإدارى فى مصر أو ربما التقطت عيناك تفصيلة الملعب المجانى المتاح لأطفال الحى فى عدالة طبقية كاملة حيث يلعب ابن عامل النظافة مع ابن الأستاذ الجامعى على نفس المرجيحة، مع سيادة قيم تربوية متشابهة وتجانس سلوكى دون تفاوت طبقى متنافر بين الأطفال، سواء كانوا ألمان أم أجانب من دول العالم الثالث. لست مع إضفاء المثالية على المجتمعات الاوروبية (فهى لها عيوبها أيضاً) وكذلك لست مع استيراد نماذج كاملة من المجتمعات الأخرى إلى المجتمع المصرى إيماناً أن لكل مجتمع خصوصيته التاريخية والثقافية والدينية، لكن بعض القيم عالمية لا وطن لها، مثل قيمة العدالة وقيمة الاهتمام بالمواطن والاستماع إليه وقيمة التعليم وإجادة مستحدثات العصر والكمبيوتر وقيمة التوزيع العادل لمصادر الحراك الاجتماعى كالتعليم والأجور بل وأساليب الترفيه وقيمة الاحتراف والأدب فى التعامل حتى لو جاء مواطن يشكوك... تذكرت مقولة رفاعة الطهطاوى منذ عقود طويلة والتى تفيد حقاً أن "التقدم فى بلد ما لا يحل إلا بالعدالة السياسية والعدالة الاجتماعية"، ترى كم من سنوات العمل الجاد المخلص نحتاج لنرى بعضاً من هذه القيم تمارس على نطاق واسع فى مصرنا الحبيبة ؟