يطرح استمرار أزمة قنا نتيجة احتجاجات الأهالى ضد محافظها على مدى أيام تساؤلات مشروعة وموجودة فى المجتمع حول كيفية إدارة الجدل السياسى فى المرحلة الانتقالية الحالية، وبغض النظر عن من المتسبب فى الأزمة بترشيحات المحافظين (المجلس العسكرى أو رئيس الوزراء أو نائبه) فالمشكلة تكمن فى ما طرحته آليات اتخاذ القرار من مخاوف عامة على مكتسبات الثورة، كان أحد أسباب اعتراض الأهالى تصدير القرار من المركز فى القاهرة إلى الهوامش إلى الأقاليم ولذا فمن الغريب أيضاً أن يتم تصدير الحل بنفس الآلية المركزية متمثلاً فى سفر بعض المشايخ وصحفى من القاهرة على أمل أن يكون لهم صوت مسموع هناك وهو ما لم يحدث (مع تحفظى على معايير اختيار الشخصيات المنوط بها هذه المهمة أيضاً) أو المنطق الأمنى (مثلما كان يحدث أيضاً فى النظام السابق)، وإن كان الصمت سائداً فى العهد السابق فمن حق الأهالى التمرد اليوم على "الوصفة السهلة" التى تصدرها لهم القاهرة، ولكن هل يجوز الاعتراض بهذه الطريقة؟ بمعنى آخر هل يجوز الارتكان إلى نظرية رد الفعل لتجنيب أهالى قنا أى مسئولية عن تفاقم الأمور؟ لدى تحفظان أساسيان على طريقة الاعتصام وليس على الحق فيه: التحفظ الأول عدم تغليب الصالح العام متمثلاً فى قطع الطريق وإقحام الأفراد العادية التى ساقها قدرها فى هذا الطريق فى أزمة لا علاقة لهم بها، فقطع الطريق خطأ سواء من قطعه صعايدة أو بحراوية... مسلمين أو أقباط لأنه يلجأ لنفس آلية النظام الممقوتة والمتمثلة فى فرض الأمر الواقع، أما التحفظ الثانى المثير للقلق هو تصاعد النبرة الدينية بطريقة حادة لدى بعض -ليس كل- المتظاهرين بل وبحشد مدفوع من بعض المقربين من النظام السابق كما تواترت بعض الشهادات، وشيوع الرأى أن المحافظ القادم يجب أن يكون مسلماً مدنياً، ولذلك أطرح سؤالاً إن كان الاعتراض سياسى فكيف تسللت الشعارات الدينية إلى بعض الهتافات واللافتات؟ وكيف نفسر بعض التصرفات العجيبة لبعض المتظاهرين، فبرغم أننى ضد التعميم إلا أن سيكولوجية الحشود والغضب الجمعى لها إيقاعها المنذر الخاص، وفى نفس الوقت لا يخفى على أحد مواكبة المظاهرات لتوقيت احتفال الأقباط بالأعياد. يذكرنى المناخ السائد فيما يتعلق بأزمة قنا الحالية نفس المناخ الاستقطابى قبيل الاستفتاء على التعديلات الدستورية، يجوز أن الإعلام الهستيرى ساهم فى تعزيز الملامح الطائفية وأغفل عن قصد أو غير قصد جوانب أخرى فى تغطية الحدث أبرزها مشاركة بعض الأقباط والقوى السياسية التى لا تنتمى للتيارات الإسلامية فى التظاهرات، مثلما أغفل التركيز على توترات ومظاهرات ضد تعيين محافظين مسلمين فى محافظات أخرى نتيجة سيادة نفس المنطق المركزى. بعيداً عن إلقاء اللوم على أخلاقيات الإعلام ما المخرج العملى إذن؟ يكمن أصل المشكلة فى التباطؤ وإيقاع رد الفعل الذى لا يتحمله الغضب وتسارع وتيرة الأحداث فكلما طال الوقت يتعقد الخروج السلس من الأزمة (ولا داعى للتذكرة بأزمة كلية الإعلام التى تتعقد كلما طال زمنها) نحتاج الآن وفوراً حلولاً خلاقة لا تنطوى على النظرية الأمنية أو إسكات الحشود بأى وعود فارغة، نعم على الحكومة أن تنصت للشعب وتسمع منه وقد يكون على رئيس الوزراء السفر بنفسه لمقابلة الناس كبادرة منه للاستماع ، هناك بديلان يعتمدان على المدرسة القديمة فى كسر إرادة احد الأطراف، البديل الأول المطروح بقاء الأوضاع والرهان على كسر إرادة المعتصمين السلميين أو تململهم أو تهدئتهم أو تفاقم الامور غضباً بشكل يصعب عليه السيطرة وهو رهان صعب وغير مأمون العواقب، أما البديل الثانى فرض المعتصمين لمطلبهم على الحكومة الانتقالية ليقال المحافظ أو يستقيل وهو ما يتم رفضه من قبل مجلس الوزراء حتى الآن لاعتبارات منطقية ولها وجاهتها: فإذا أقيل هذا المحافظ وحده وبقى الآخرون المسلمون وهم مفروضون على الأهالى دون معايير واضحة أيضاً ستكون رسالة ذات مغزى ديني واضح للأقباط رغم إن الصالح العام فى الفترة الحرجة الآن من المفترض أن يعلى من قيمة الوحدة الوطنية وقيمة الأمان للمسافرين وعدم تعطيل المصالح فى المرحلة الحالية، كذلك قد يسفر نجاح التصعيد عن رسالة خاطئة لأى معترض آخر أنه بعلو الصوت وتعطيل المصالح سوف تستجيب الحكومة للمطالب، وهو أمر من شأنه أن يشجع فئات أخرى ذات مطالب غير مشروعة ولا تريد سوى أن تستثمر مناخ الاضطراب والتخبط من أجل مصلحة خاصة كالبلطجة او غيرها. الحقيقة أنه بالمعايير الموضوعية تغلب كفة إقالة او استقالة المحافظ عماد ميخائيل لعدة اعتبارات متعلقة بخلفيته الأمنية وعلاقته بالنظام السابق إضافة إلى طريقة اختياره دون إشراك أصحاب الشأن ودون وجود معايير واضحة باستثناء تمثيل فئة الأقباط، إضافة إلى الطريقة المعهودة فى تقسيم كراسى المحافظين، وجانبها الصواب هذه المرة لسبب مهم أولها ارتفاع لسقف التوقعات فى محافظة الصعيد المهمشة لتأتى التعيينات مخيبة للآمال. لكن فى ضوء ذلك يبقى الحل فى النهج التفاوضى والحوار المفتوح مع القادة المحليين فى قنا باتباع أساليب خلاقة، ليس فرضاً بل أخذاً ورداً بين الطرفين، فالنهج الجدلى للخروج بفكرة وسطية جديدة لاستيعاب كل الآراء والوصول لحل يرضى بقدر الإمكان أغلب الأطراف دون كسر الإرادات مع الاعتبار بالمساواة فاختيار كافة المحافظين قد يكون المخرج الأكثر حفاظاً على الصالح العام، ولذلك يجب ألا يصم مجلس الوزراء آذانه عن التحاور مه أهالى قنا مطلقاً، قد يبدو إذن الحل النظرى المثالى أن يتم تغيير كافة المحافظين الذين لا يحظون بقبول شعبى استناداً إلى آليات واضحة تتسم بالشفافية، بل والحرص على تعيين شخصية قبطية تحظى بقبول شعبى فى قنا بالذات لدحض شبهة الطائفية عن الاعتراضات السياسية، والتى لا يعانى شعبها الطائفية بالتأكيد بدليل إعجاب أهالى قنا بأداء عادل لبيب المحافظ الأسبق والذى كان قبطياً أيضاً بل وأن شبح الطائفية يتم تداركه الآن من المتظاهرين. سوف تسفر الأيام القليلة القادمة عن المخرج وكيفية ملائمته لروح ما بعد يناير وثقة الثوار فى حكومة عصام شرف والذى يحتاج سرعة ناجزة ومبدأ المشورة قبل اتخاذ القرارات دون آليات مركزية. لا زلت مؤمنة بفطرة أهالى الصعيد ولكنى أشك فى فطرة القاهرة . رغم إن الصالح واحد والقارب واحد.