لقد انبهر العالم بالثورة المصرية لأسلوبها الحضارى والسلمى، لم يواجه الثوار العنف بالعنف ولا المولوتوف بالمولوتوف ولا الرصاص بالرصاص، لأنها لم تكن حركة تمرد لقطاع محدود العدد والهدف، بل كانت ثورة شعب بأكمله. كان هدفنا واحدا وهتافنا واحدا... لم نوجّه هتافا بذيئا لمبارك أو أتباعه ولو أردنا لكان أمامنا الكثير من أفعالهم (المشينة) التى تصنع آلاف الهتافات فماذا جرى لكم ياثوار؟ كيف تسمحون لأفواهكم الطاهرة أن توجّه السباب لأحد خاصة المجلس العسكرى مهما كانت درجة اختلافكم واختلافنا معه وأنتم الذين علّمتم العالم كيف يكون الهتاف القوى المتحضر؟ كيف تخط أيديكم لافتات تمتلىء بألفاظ سوقية وقد كانت الدنيا تقرأ بإعجاب لافتاتكم الظريفة المعبرة؟ كيف تجعلون العالم يتناقل صور اعتداء على المصريين على بعضهم بعد أن كانت صورنا تتصدر أغلفة المجلات وشاشات القنوات؟ لقد استبدل الشباب فى العالم بصورة جيفارا صورة الشاب الشجاع الذى تصدى للمدرعة وأجبرها على التوقف. إن ثورتنا لم تأخذ اسما واحدا بل أخذت عشرات الأسماء؛ إنها ثورة الغضب والثورة البيضاء والثورة الضاحكة والثورة السلمية. فماذا تريدون أن يسميكم العالم اليوم؟ كنت مقتنعا بضرورة التواجد الدائم بالميدان، وكتبت على الفيس بوك : يجب أن نُبقى الميدان فى حوزتنا لنحافظ على جذوة الثورة متّقدة وحتى لا نعطى الفرصة لمن يريدون أن يفعلوا بميدان التحرير كما فعلت البحرين بدوار اللؤلؤة، وعندما علمت صباح السبت بما جرى بالليل عدت مسرعا إلى التحرير كى أقف بجوار إخوانى الثوار... هل تعرفون بم شعرت؟ شعرت بما كان يجرى بين فريقى موقعة الجمل.... ليست موقعة الجمل الأخيرة فى التحرير...بل موقعة الجمل الأولى فى منتصف القرن الأول الهجرى.. وبعدها موقعة صفين.. والتحكيم ... ورفع المصاحف على أسنة الحراب... أيامها اعترض بعض المسلمين المخلصين من أتباع سيدنا على بن أبى طالب على موقفه.. واتهموه بالتهاون وخرجوا عليه.. فكانوا الخوارج... بل إن شيوخهم أفتوا بكفره كرّم الله وجهه... بل قتله أحدهم (عبد الرحمن بن ملجم) وهو يصلى رضى الله عنه... بل وامتدح أحد شعرائهم القاتل قائلا: ياضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا كان الخوارج أكثر الناس إخلاصا وأطولهم عبادة وأعذبهم قراءة ، لكن تعنُّتهم لإخلاصهم وخروجهم عن رأى الأغلبية أدى إلى فتنة مازال المسلمون يعانون منها حتى اليوم. لست أريد مطلقا أن أصوّر ثوار مصر المخلصين على أنهم خوارج، ولا أستعدى أحدا عليهم، بل إننى فقط أحذر من أن المغالاة غير الواعية تقود المرء إلى غير غايته. هل يجوز أن تعزف كل جوقة فى الثورة لحنها الخاص دون التزام بالنوتة الجماعية؟ لماذا نعيب إذن على البعض تعصبهم لرأيهم وسعيهم لإجبار المجتمع على اتّباعهم حتى بقطع الآذان وهدم المقامات؟ لقد ثرنا على الحزب (الوطنى الديمقراطى) الديكتاتورى، فهل تريدون أن يقال إننا استبدلنا به ديكتاتورية الثورة؟ أليس من أهدافنا: إقامة حياة ديمقراطية سليمة؟ أين الديمقراطية إذا كان مائة أو ألف أو عشرة آلاف يريدون فرض رؤيتهم على الملايين؟ قال ربنا عز وجل فى سورة الأنفال التى روت أحداث غزوة بدر الكبرى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكم واصبروا إن الله مع الصابرين) الانفال/46 . فكيف نتنازع وننشغل عن هدفنا الأسمى: كيف نبنى مصر الحديثة؟ إن التواجد فى التحرير ليس غاية ، لكنه وسيلة لمساندة المجلس العسكرى والضغط عليه أيضا للإسراع فى تنفيذ مطالب الثورة، ويجب فى كل الأحوال أن نبقى تحت مظلة دفاع القوات المسلحة، لأننا لو خرجنا بعيدا عن مداها سوف تواجه مصر مشاكل لايعلمها إلا الله. إن من أسباب نجاح الثورة أن الشعب شعر بها وتفاعل معها لأنه رأى فيها أملا فى العيش الكريم، فهل مايجرى فى ميدان التحرير من أسلاك شائكة وتوقف للمرور وإغلاق للمحلات وتعطيل للشركات يغرى أحدا بالتعاطف؟ نريد أن نحسن تسويق ثورتنا بين أهلنا حتى نضمن تأييدهم ومشاركتهم. إن أقطاب الثورة المضادة، من الرئيس المخلوع حتى أصغر عضو فى مجلس قروى لايكلّون ولا يملّون من محاولة وأد الثورة، ويسعون ليلا ونهارا لاستغلال أدنى هفوة لإعادة سيناريو(ثغرة الدفرسوار). وكما نسد الفُرَج بين صفوف المصلين يجب أن نسُدَّ الثغرات بين صفوف الثائرين حتى لايتسلل منها تلاميذ إبليس. هل نتركهم يخططون ويعدّون البيانات المدروسة ونتصرف نحن بحماسة عشوائية؟ لقد تخطينا مرحلة المظاهرات المحدودة على سلالم نقابة الصحفيين، تجاوزنا مرحلة أن يتظاهر بعض المصريين ويكتفى الآخرون بالفرجة عليهم.نحن الآن فى عصر (مظاهرة مصر) من الاسكنرية حتى أسوان. لم يعد يرضينا أن نرى مظاهرة أو اعتصاما لألف أو ألفين أو عشرة آلاف.. لا يملأ أعيننا سوى المظاهرات المليونية التى يقف العالم مشدوها أمام تحضرها ونظافتها. ولن تستطيع الضغط لتنفيذ مطالبنا سوى بالوحدة والتنيسق. أين هتافنا الجميل: إيد واحدة؟ هناك أهداف تكتيكية يصلح معها إيقاف البلد وشلّ النشاط والدخول فى إضراب عام وعصيان مدنى لتحقيق هدف عاجل.. وهذا مافعلته الثورة فى الثمانية عشر يوما الأولى... الثورة الآن تحتاج نفسا طويلا واستراتيجية متوسطة المدى لاجتثاث أذرع الأخطبوط المتغلغلة فى ثنايا المجتمع... ولايجوز أن تظل المصالح معطلة شهورا طويلة.. يجب أن يسير التحرير مع التعمير حتى تنهض بلدنا بعد ركود عشرات السنين. إننى بعد الذى رأيته يومى السبت والأحد، اشتريت مكنسة وقفازا وأخذت أجمع الأوراق وأكنس التراب لعلى ألفت نظر الثائرين إلى أخلاق الميدان الأولى. وكم كنت أود لو استطعت الصعود أعلى مئذنة مسجد عمر مكرم لأنادى فى مصر جميعها: ياثوار التحرير... اتحدوا.