عندما هاجمت أسماك القرش المفترسة مجموعة سياح الغطس فى شرم الشيخ؛ قامت الدنيا ولم تقعد، وانتفضت أطقم وزارة السياحة والبيئة ومعها وزارة الداخلية والمحافظة؛ كلها تبحث عن القرش المجرم، واستنفرت الدولة كل إمكاناتها وقدراتها لتقبض على القرش المتهم، وهذه الإمكانات عبارة عن سلسلتين من الصلب ولفة من الحبال القوية وسمكتين بلاميطة زفرين، وبعد عدة غزوات وهجمات وكمائن نصبت فى البحر قبالة الساحل مسرح الجريمة؛ ألقت السلطات القبض على القرش المتهم، وقبل أن يسلم الروح اعترف بأنه الجانى، ورغم اعترافه بارتكاب الجريمة؛ فقد أصرت السلطات على فتح بطنه لكنهم لم يجدوا فيها شيئا، لكن الاعتراف سيد الأدلة، واطمأن الناس والسلطة، وعاد السياح للسباحة والغطس مرة أخرى بعد طمأنة الوزراء المعنيين لهم بأن الخطر قد زال.. فى اليوم التالى قتل القرش (المتهم) سائحة ألمانية. وبعدها بأيام؛ انتشرت على الإنترنت صور للقرش المقبوض عليه، وقد بقرت بطنه وأطل منها ذراع ورجل إنسان، وتم فتح البطن وإخراج محتوياتها دون أن تراق قطرة دم واحدة، لا على جلد القرش المتهم ظلما ولا على الأرض، فياللعجب ! إنه الفوتوشوب .. والله أعلم. المهم فى هذه المقدمة أن ندرك أن تعامل حكومتنا الأمثل مع أى مشكلة تعترض طريق التنمية هو التعامل الأمنى، والنتيجة واضحة جلية لكل ذى عقل، فالمشكلة لم تحل، والقروش فى البحر الأحمر لا زالت مفترسة، وستهاجم الغواصين تحت الماء والسباحين فوق الماء، ولا يمكن أن تحل بهذا التناول السطحى لها، أو بإنكارها، هنا .. نجد أنفسنا فى مشكلة أكبر، فإن كنت تدرى فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدرى فالمصيبة أعظم ! وأعيدكم إلى أصل الحكاية؛ اشتهرت مصر فى منتصف سبعينيات القرن الماضى بين الغواصين الهواة والمحترفين بأن بحرها الأحمر يحوى تحت موجه أجمل الشعاب المرجانية فى العالم، ومنا من أدرك هذه الحقيقة مبكرا فذهب إلى هناك فى الغردقة والقصير وعلى السواحل بينهما، وإلى شرم الشيخ ودهب بعد أن عادتا إلى السيادة المصرية، وإلى رأس محمد؛ أشهر محميات الغطس فى العالم على الإطلاق، (هل رأيتم فى حياتكم محمية طبيعية يرصف الطريق إليها بالأسفلت؟) ومن ارتاد تلك المناطق فى ذلك الوقت رأى تحت الماء عالما من الألوان الرائعة؛ أسماك وشعاب ومخلوقات تسبح فى ملكوت الله تحت الماء .. سبحان الله ! مرت الأيام والسنون، وزادت شهرة البحر الأحمر فى العالم، وزحف العمران على البر، وامتدت رقعته كبقعة زيت على كل الشواطئ فاحتلتها، وما عدنا نرى شاطئ البحر من كثرة القرى والمبانى المقامة عليه، وأنفقت مئات المليارات على إنشاء الفنادق التى تكاثرت نجومها حتى غطت على ما عداها من النجوم ! وكما زحف العمران على البر؛ زحف على البحر، وأقبل الناس على بناء القوارب واليخوت، حتى وصل عدد لنشات السياحة والغطس فى الغردقة وحدها إلى عدة آلاف، كلها تنفث سمومها فى البحر، وتفرغ حمولاتها من القاذورات فى مياهه، وصاحب هذا التلوث الرهيب عمليات الصيد بالديناميت والدي دي تي، والصيد بالتجريف الذى يمارسه الصيادون من عزبة البرج وبرج البرلس والسويس، ثم عرف المغامرون من الغطاسين والصيادين موضة خيار البحر، وعبر خمس سنوات لا أكثر؛ اختفى الخيار على سطح الشعب المرجانية وفى الأعماق، وكان لاختفائه وانقراضه تأثيرا هائلا على بيئة البحر الأحمر فى مصر. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى هلاك معظم الشعاب المرجانية التى تحولت ألوانها الزاهية إلى اللون الرمادى الميت، ومعها فنت أنواع الأسماك الملونة التى تسكنها، فهى لا تتحمل هذا القدر الهائل من التلوث. وعوْد إلى هجمات القروش؛ الكائن الوحيد الذى يمكن أن يتحمل ظروف التلوث الهائل فى البحر الأحمر هو سمكة القرش! فهى مخلوق لا يعرف المرض أو الضعف، ومصر أصبحت قبلة سياحة الغطس ليشاهد الغطاسون القروش بكل أحجامها وأنواعها، وعندما أدرك القائمون على رحلات سفارى الغطس هذه الحقيقة؛ لجأوا منذ أكثر من عشر سنوات إلى حيلة هى السبب فيما نعانى منه الآن؛ هذه الحيلة يعبر عنها بالإنجليزية بلفظ chumming ، وهى تعنى إلقاء مخلفات اللحوم والدواجن والدماء وبقايا وأمعاء الأسماك فى الماء حول المركب قبل موعد الغطس بوقت قصير، ثم ينزل الغطاسون إلى الماء ليشاهدوا ويصوّرا القروش التى تجمعت تحتهم تأكل الفضلات التى ألقيت، فلما تكرر هذا الفعل من القائمين على رحلات السفارى؛ تغيرت عادات التغذية عند القروش، على الأخص فى المناطق التى ترتادها هذه الرحلات، فعند هذه اللنشات يكون الطعام، فإن لم يكن كافيا فلا بأس من مهاجمة السابحين أو الغواصين، ماهو كله أكل ! أرأيتم - إن صدّقتم - أننا نحن السبب ! غيرنا العادات الغذائية لأقوى مخلوقات الله مناعة، ودمرنا بيئة بحرية كانت من أجمل ما خلق الله على الأرض، وكله بأيدينا ونتاج أعمالنا. (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) صدق الله العظيم - الروم 41