سأتذكر طويلا ذلك الخازوق . سأقاوم أبدا هذا الألم بالغ . سأتذكر مساء الرابع من أكتوبر 2010 . سأتذكر ذلك الشعور النادر الذي رسمه صوت الزميل النبيل عمرو بدر ، رفيق الحاجات التي تصعد لحتفها غالبا ، عندما أبلغته مرتبكا بنبأ إقالة الزميل الموهوب تماما إبراهيم عيسى ، رئيس تحرير " الدستور " . سأدون كثيرا . سأدون وأكتب وأحكي عن حدوتة الموجات المشوشة التي استقبلتها في التليفون من رنة صوت " عمرو " المصدوم ، وأنا اعتدت منه صوتا واثقا هادئا ، لكن هذه المرة تهاوت الرنة والكلمة والجملة أسفل سافلين . لن أنس أبدا القلم الحبر الأسود ، الذي تركته في أحد أدراج طاولة قسم التحقيقات والأخبار بمقر " الدستور " الحقيقي في 3 ش احمد نسيم . قلم يقترب من مرتبة الصديق ، لأنه هدية من عزيزتي جدا وخطيبتي " روضة أحمد " . لن أنس ما حييت خلطة القهوة الزيادة ، الخالية من البن ، التي كان يلفقها لنا بحب قسم " البوفيه " كل صباح ، ولا المدخنة الموسيقية التي كنا نعزفها أنا وعمرو بدر على إيقاع صناديق دخان يراها هو " إل إم " أزرق ، وأشربها أنا " لايت" ! . أحاول أن أكتب فتهرب الكلمات . أمسك القلم باليمن واليسار فأفشل رغم أن شهوة الكتابة تبحث عني أينما كنت : في مقر الدستور القديم ، وفي اعتصامنا الرائع بنقابة الصحفيين . تطلب مني أن أكتب شيئا عني ، عنها ، عن رفاقي الرائعين في اعتصامهم الحضاري الذي لم تشهده مثله نقابة الصحفيين في تاريخها ، عن التماسك الإنساني الفريد بين أبناء " الدستور " بكل مشاربهم وملفاتهم ومصادرهم الصحفية وأذواقهم الموسيقية والغذائية ، وعن الأذواق الغذائية اكشف لكم أن البعض يفضل الفول والطعمية ، والبعض الآخر يأكل الكشري لكن بمكرونة أقل ، وفي اليوم الرابع للاعتصام قررنا في لجنة الإعاشة أن نقلب المعادلة تماما ، فكانت النتيجة أن الزميل الجميل أحمد بدر أتحفنا بكبدة اسكندراني ، ومسقعة ، وبطاطس بالكاتشب ، حبسنا بعدها بالمياه الغازية ، وهذا هدأ من روع الزميل والصديق النقي شادي عيسى ، والزملاء المدهشين فعلا ، محمود بدر ، والوليد اسماعيل ومحمد الأنور ، ومحمد أبو الدهب ، وتامر عبد الحميد ، الذين أعلنوا الحرب على لجنة الإعاشة لأن كل إمداداتها للجنود على الجبهة لا تخرج عن الفول أو الفول بصلصة أو الفول بحمص أو الفول سادة .! أحكي لكم عن خطيبتي روضة أحمد التي زارت الاعتصام فمنحتني قوة في مواجهة نزوات قلق . أحكي لكم عن الصورة اللطيفة التي جمعتني مع النقابيين المناضلين رجائي الميرغني ويحي قلاش في خيمة الاعتصام ، وكان قد التقطها لنا المصور الطفل الموهوب عمرو مصطفى ، أم أقص لكم عن المصور النوبي المتميز محمد عبد المنعم الذي عندما سألته : إيه تقديرك للي بيحصل ؟ . فقال لي : أنا فخور جدا بأنني مصور صحفي في الدستور ، والناس المحترمة دي كلها زمايلي . لا . سأروي لكم أن قدماي التي تسقط من التعب وأنا أمدد جسدي على كنب ومقاعد الدور الأول بنقابة الصحفيين فجر كل يوم ، لكنه ليس سقوطا لو تعلمون ، هي استراحة صغيرة لبدء جولة جديدة من المواجهة . حلقة جديدة من حلقات الدفاع الدفاع عن " رضوان آدم " ، عن زملائي ، عن حرية الصحافة في بلد بيع فيه كل شيء لعصابة رجال الأعمال ومقاولي التنكيس طبقا لتوصيف زميلنا أحمد الصاوي في مقال له بالمصري اليوم . آه ، أحكي لكم عن ذلك الشعور البالغ بالمرارة الذي سببه لي الزميل محمد الأنور ، عندما بكي في المساء الأخير لنا في مقر جريدتنا بشارع احمد نسيم ، وهو لم يجاوز الثلاثة أسابيع عمل في " الدستور " ، وقد وضعني في حرج بالغ لأنني كنت على وشك أن أطلق اطنانا مكبوتة من مشاعر أسى وحزن وحنين سيستمر لذكريات حلوة ومرة ومجنونة في صحيفتنا المختلفة التي احتلها الغجر بين عشية وضحاها . اعتقدت وقتها أنه لا وقت للبكاء ، وأننا يجب أن نناضل من أجل استعادة ماكان " دستورنا " ، وقد كان ، وبعدها لم أرى " الأنور " يبكي أبدا ، الآن هو يضحك ، ويكتب ، ويعلق الملصقات على حوائط النقابة ، مبسوط جدا بالحالة العظيمة لصحفيي الدستور في النقابة ، ومتأكد من أننا سننجح في انتزاع مطالبنا ، على أنه الآن نائم والصحفي الصلب محمود بدر على المقاعد الجلدية من فرط الإرهاق . لأنني غير مستعد فعلا لكتابة افكار متماسكة ، وهذا لأنني مرهق جدا ، فلا مانع من أن أذكركم بأنني كتبت في " الدستور " قبل أزمة الرابع من أكتوبر مقالا عنوانه " غواخيرو " ، وهي مجددا كلمة إسبانية معناها " الفلاح الخام " يطلقها اهل المدن والعواصم الكبرى في أمريكا اللاتينية على أهل القرى هناك للتباسط والسخرية اللاذعة ، وعليه ، فالآن لابد لي أن أكتب كلمتين ثلاثة عن " خوازيقيرو " ، ولمن لا يعلم ، " خوازيقيرو " هذه كلمة من إصطلاحي أنا ، ومعناها " المخبر الخام " الذي يحصل على الخازوق من المسئول الحكومي بتاع " الخوازيق " ، ويقوم بتمريره في الاتجاه الذي يطلب منه ، و أحدث جيل " خوازيقيرو " الآن في السوق ، في تقديري ، هم رجال الأعمال الذين تدفع لهم السلطة الغبية التي تحكمنا ملايين الجنيهات كمستلزمات زراعية لزرع الخوازيق في الصحف المستقلة ، والقنوات الفضائية ، لإسكات كل قلم حر يفضح فساد ويكشف حقيقة . ولو أنني ساكتب لاحقا وصفا أكثر دقة عن هؤلاء ال " خوازيقيروز " إلا أنني أود أن أؤكد أن صحفيي " الدستور " قد ردوا الخازوق خازوقين لرجل الأعمال الخام الذي دفع ملايين الجنيهات لينفذ مهمة زرع الخازوق ، وهو الآن يتلوى منه ، فلا تصلوا من أجله ، واهتفوا معنا : قبح الله كل " الخوازيقيروز " ، وعاشت " الدستور " حرة ، وعاش كفاح الصحفيين .