هل تذكرون حين قتلت المرحومة مروة الشربيني في ألمانيا؟ خرجت مظاهرات تندد بالقتل وبعنصرية الغرب وبالحرب علي الإسلام، وحملت لافتات تقول «بأي ذنب قتلت؟». مفجع للغاية أن يقتل إنسان في غربة، وأن يقتل دون أن يقترف جرما، وأن يقتل علي يد مهاجر مثله، إنما حقير ومتعصب. من أجل هذا تعاطف الناس مع قضيتها - رحمها الله - وخرجوا في الشوارع، معبرين عن هذا التعاطف. ومن أجل هذا تصرفت ألمانيا بسرعة بتعزية علي أعلي مستوي دبلوماسي وبنظامها القضائي المشهود له. لكن الأكثر فجيعة أن يقتل إنسان في وطنه، دون أن يقترف جرما، وأن يقتل علي أيدي أناس من أبناء نفس الوطن، خططوا ونفذوا. ثم لا يتعاطف إخوانه معه ويخرجون في الشوارع معبرين عن هذا التعاطف. بل إن جموعاً من نفس المدينة لا تتفهم غضبه، وتخرج في مظاهرات ضد الضحية. مفجع أن تتحول ذكري عزيزة علي أناس إلي ذكري محزنة، وأن يتحول عيد إلي مجزرة، وأن يتحول مكان عبادة إلي مذبح، وأن يتحول وطن إلي مصيدة لا مكان فيها ولا حتي للهرب. مفجع أن في مصر قتلا علي الهوية - ولو كان حادثا نادرا، وأن فيها أطفالا يُنصَحون بالاختباء يوم العيد لأن «جيرانا لهم» يتربصون بهم. لكن أصل الفجيعة هو الحالة الأخلاقية التي تعيشها المجتمعات المسلمة الآن. في البلاد التي هم فيها أكثرية، كمصر وماليزيا (اعتداء علي كنائس لأنها تستخدم كلمة الله)، أو التي هم فيها أقلية كبلدان أوروبا. والأفجع أن كثيرا من المسلمين مصابون بحساسية مفرطة من مجرد الحديث في الموضوع. بحيث لا تدري أيهما الداء وأيهما العرض. هل لأن الحالة الأخلاقية صارت لا تسر، لم يعد المسلمون راغبين في مناقشتها (من باب اللي علي راسه بطحة يحسس عليها)؟ أم لأنهم حساسون من مناقشة الموضوع الأخلاقي فقد سمحوا للحالة الأخلاقية بأن تتردي؟ من وجهة نظري الاحتمال الثاني كان أصل التدهور. لأن أهل الأديان بصفة عامة يعتقدون أن مجرد إيمانهم بالدين يجعلهم أقرب إلي معبودهم. ومن ثم أفضل. فهم أهل الجنة حتي إن عصوا، وغيرهم أهل النار حتي إن أحسنوا. ويا لها من طريقة وذهنية تحكم علاقة الإنسان بأخيه. بل يا لها من ذهنية تحكم علاقة الإنسان بنفسه وبضميره. عميقا في وعي بعض المسلمين أن غير المسلم معاقب بالضرورة لأنه ليس مسلما، هذا حكم الله عليه في الآخرة. وهم في هذا يظنون أنهم بإساءة معاملة غير المسلمين في الدنيا فإنهم يقتدون بالحكمة الربانية - «ولله المثل الأعلي». هكذا بدأت القصة في البلدان التي عاش فيها المسلمون أكثرية، أو أقلية كبيرة حاكمة، أو علي صلة بإمبراطورية قوية. ولأن الوضع لم يكن مزعجا لهم، ولأنهم لم يتضرروا كما تضررت الأقليات، فقد استمروا. ولأنهم اعتقدوا أن مناقشة علاقتهم بغير المسلمين تجاوز لدورهم في الدنيا كعبيد مأمورين، وتقديم لعقولهم علي حكمة خالقهم، فقد استمروا. ولأن حكامهم يكرهون التفكير المختلف والرأي المختلف والمرجعية المختلفة والأنف المختلف، فقد راق لهم ذلك، واستمروا. ثم اختلف الوضع وصار المسلمون يعيشون أقليات في بلدان. كان المفترض أن يعلمهم هذا احترام الآخرين علي أساس تبادلي (وهذا هو الوضع مع الأغلبية الساحقة من المسلمين)، لكن الوجوه نفسها التي خربت العلاقة بين المسلم وجاره في بلداننا، خربتها في كل مكان. من رجل بمخلب حديدي يتوعد به المخالفين، إلي آخر يمتدح قتل ثلاثة آلاف إنسان في نيويورك وواشنطن، إلي ثالث يريد أن يستثني الإسلام فقط من ثقافة الانتقاد التي تطال كل شيء في أوروبا. وبدا واضحاً أن ثمة شيئا خطأ في ذهنية المتدينين المسلمين، تماما كما أن هناك أخطاء في ذهنية المتعصبين المسيحيين حين كانت لهم الكلمة في عصور سابقة. هناك أيضا مشكلة مع المجتمعات الإسلامية نفسها، ألا وهي عدم القدرة علي الرؤية السليمة ولا علي امتحان القيم. كثيرون صفقوا للعمليات الانتحارية، لم يستمعوا إلي من قال لهم إن هذه سقطة أخلاقية لا ينبغي أن تلصق بالمسلمين. اعتقدوا أنها الحل الناجع. ولم يستمعوا إلي من قال لهم إنها ليست أكثر من ورقة محروقة، تصيب الغافل. المجتمعات الديمقراطية تفترض حسن النية حتي يثبت العكس. وبمجرد أن ثبت العكس صارت تكلفة العملية الانتحارية أكبر من تكلفة مدرسة، والتخطيط لها كالتخطيط لإعمار مدينة. فاستعصت علي منفذيها. لكن هؤلاء تحولوا إلي قتلة. لا يستطيعون أن يكبحوا الرغبة في القتل. فانثنوا عما استعصي إلي ما سهل من أهداف. وصار المسلمون البسطاء ضحاياهم في مساجد العراق وحسينياته وطرقاته وشوارعه، ثم في مساجد بيشاور وملاعبها. ليس لدي نسبة دقيقة وإنما النسبة المتداولة هي 98 % من ضحايا العمليات الانتحارية منذ 2005 مسلمون. يجب أن يسأل المسلمون أنفسهم، ماذا لو تعامل معنا الآخرون بنفس الطريقة. ماذا لو انتظرنا ألماني ونحن خارجون من مسجد برلين يوم العيد وأطلق علينا الرصاص لأن مسلما - لا علاقة لنا به - اغتصب طفلة؟ ماذا لو أرسلت الحركة الشعبية لتحرير السودان جنوبيين لتفجير المقاهي في الخرطوم؟ أو لو فجر يونانيون حافلة مدرسة تركية بسبب ما فعلت تركيا بقبرص؟ لا تشغل نفسك بالبحث عن عناصر الاختلاف بين الأمثال التي أعطيتها وبين ما يفعله مسلمون متعصبون. لا تشغل نفسك. لأن كل إنسان في العالم يري الحياة من وجهة نظر مختلفة عنك. وصدقني، وجهة نظرك لا تستمد أي أفضلية لمجرد أنك مسلم. وجهة نظر شخص أكثر احتراما للنفس البشرية وأكثر علما وأكثر ثقافة وأنقي ضميرا أفضل بالتأكيد مهما كان دينه، ولو لم يكن ذا دين من الأساس. لقد آن الأوان لكي يعلم المسلمون أن شيئا جوهريا في حاجة إلي تقويم. وأننا في حاجة إلي مراجعة أنفسنا. أن الأخلاق ليست فقط غض البصر، ولا ستر الجسد، ولا تجنب لمس الجنس الآخر. بل الأهم هي الأخلاق التي عرفها البشر منذ بدء الخليقة، كالعدل، والنزاهة، والمروءة، وعدم الاعتداء غدرا، ولا القتل إلا دفاعا عن النفس. لم يعد كافيا أن نقول إن الإسلام نفسه دين سمح ومسالم، لكن المسلمين يسيئون التفسير. لم يعد كافيا. لأن أي دين هو مجرد نصوص، صيغتها التطبيقية هي أفعال المؤمنين به. لم يعد العالم يقبل «لكن» ولا «أصل الموضوع» أو «لا تنسي أن ...». كل هذه الاستدراكات لم تعد مفهومة. لو أنها مقرونة بعملية بحث في الذات ومراجعة للنفس ونقاش عام حول المآل الأخلاقي للمسلمين لفهمناها، لكن أن تكون وسيلة لإخفاء البشاعات التي تحدث باسم الإسلام فهذا ما ليس مفهوما. إنني أخجل من مجرد التفكير بأن ما يبقيني علي الأرض سالما، غريبا في بلد غريبة، هو أخلاق الناس الذين أعيش بينهم، وليس أخلاق الناس الذين جئت منهم. وليس هذا كراهية للذات ولا جلدا لها، بل ثقة فيها وفي قدرتها علي أن تستوعب الكبوات ثم تقف علي قدميها. وفي مصر يجب أن نستوعب الكبوات ونقف علي قدمينا. أن نضع أنفسنا في مكان المسيحي الذي نريد أن نخنقه ثم نطالبه بالحب والولاء والإخوة. فإذا صرخ: «مخنوق!» عاقبناه واتهمناه بالخيانة. «يا ناس مخنوق!». مصر تحتاج إلي نقاش في الصميم حول هويتها وتاريخها، وحول موقفها الآن، وحول حالتها الاجتماعية. ومصر تحتاج مرة أخري إلي مدارس مختلطة بشكل حقيقي، وإلي بنايات سكنية مختلطة بشكل حقيقي، يتزاور أهلها ويتبادلون الهدايا والمجاملات. يومها فقط نستطيع أن نقف جميعا ونقبل العزاء في من قضي. بعد ذلك صارت الدائرة وأخص المسلمين لأنهم الأكثرية في مصر، والأكثرية مطالبة دائما بأكثر مما تطالب به الأقلية. حماية الأقليات في القوانين الدولية لها أكثر من صيغة، لكنني أفضل أن أتحدث هنا عن الأعراف العامة، الأخلاق الحميدة التي يعرفها المواطن البسيط دون حاجة إلي دين ولا وحي سماوي. هل سمعنا عن شيء يسمي «المروءة»؟ نعم المروءة. ألا تغدر بأحد، ولا تتكبر علي الضعيف، ولا تنسحق أمام القوي. أن تكون نزيها في حكمك بغض النظر عن موقفك من المتخاصمين. أن تعطي الحق لأهله حتي لو لم تحبهم. يقولون إن المصريين متدينون. والله المصريون أبعد ما يكونون عن التدين. المصريون متعصبون. سكنهم في الوادي الضيق والصحاري التي تفصلهم عن الآخرين جعلتهم لا يرون إلا أنفسهم، ويعتقدون أن العالم كله يدور حولهم.