لا تتسع مصر لنا ولهم معا، لا تتسع لشعبها وللسماسرة الذين يحكمونها في الوقت نفسه، والحكاية لا هي فلسفة ولا هي جدل سياسي، لكنها موقف فاصل علي طريقة «يا روح ما بعدك روح»! والأسوأ أن السماسرة لا يضحون بأرواحنا من أجل أرواحهم، لكنهم يقتلوننا بلداً وشعباً، سهلا وجبلا، حاضرا ومستقبلا مقابل ترفهم ولهوهم! لا تتسع البلد لنا ولهم، إما أن يرحلوا، وإما أن ينتهي أمرنا، ولا بديل. فالشعب 80 مليون إنسان علي الأقل يحتاج كل منهم علي الأقل أيضا إلي كوب ماء، وكسرة من خبز القمح المروي بكوب آخر من الماء. والسماسرة الحكام لا يبالون بأن مصر تعاني نقصاً في موارد المياه، يصل قريبا إلي ملياري متر مكعب سنويا، ولا يكترثون بأنه حتي حصة مصر غير الكافية من نهر النيل تهددها الآن خمس من دول المنبع تتزعمها أثيوبيا، وتساندها واشنطن وتل أبيب. ولا يلتفتون إلي أن مصر التي كانت سلة قمح الإمبراطورية الرومانية تستورد أكثر من نصف احتياجاتها السنوية من القمح، حيث تستهلك 12 مليون طن، تستورد منها 6 ملايين طن علي الأقل. أي أن نصف رغيفنا يأتي من الخارج، وهو نصف يمكن جدا ألا يأتي بناء علي أمور لا دخل لنا بها، ولا يمكننا السيطرة عليها، مثل حرائق الغابات في روسيا، التي فرضت علي حكومة موسكو أن تتخذ قرارا بوقف تصدير القمح، لتفقد مصر مصدرها الأساسي من القمح المستورد. وهكذا نواجه حقيقة لا مجازا خطر الموت ظمأ وجوعا، لكن هذا كله لا يهم حكومة السماسرة في شيء، ولهذا تتوسع في إنشاء ملاعب الجولف (يا بلد ناقصة جولف) لتصبح 50 ملعبا، تستهلك كمية من الماء تكفي لتغطية احتياجات مليون مواطن، من الشعب العطشان لدرجة أنه يشرب من المجاري، كما تكفي لإنتاج مليون طن من القمح، تسد جزءاً مهماً من الفجوة التي صنعتها حكومة السماسرة بين إنتاج هذا المحصول الرئيسي والحاجة إلي استهلاكه. لكن الحكومة تعلن عيانا بيانا أن لا شأن لها لا بالقمح، ولا بمياه الشرب، وأنها ولرحمتها وسعة صدرها ستقبلنا تحت بند «عبيد إحساناتها»! هذا ما قاله «جمال مبارك»، حين صرح بأن «فكرة تحقيق الاكتفاء الذاتي في المحاصيل الرئيسية غير عملية» رافضا مجرد التفكير في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وملقيا التصريح وكأنه حقيقة مسلمة لا تحتاج إلي شرح ولا إثبات، ثم مضيفا أن «الأهم هو زيادة دخل الفلاح ومساعدته في زيادة مستوي معيشته». أما وسائل زيادة الدخل، وطرق المساعدة فهي حسب نص كلامه : «مضاعفة عدد الأسر المستفيدة من معاش الضمان الاجتماعي ليبلغ مليونين و400 ألف أسرة خلال السنوات الثلاث المقبلة، بينما يبلغ عدد الأسر المستفيدة حاليا مليونين و200 ألف أسرة. بينما نسبة الأسر غير القادرة التي تتمركز في الألف قرية تتراوح بين 40 و50%، فضلا عن إشارة إلي أن المعاش زاد بنسبة 25% مع بداية العام الحالي». هكذا إذا، إما نحن وإما هم، ولا توجد نقطة التقاء مع حكومة لا تخطط لتوفير فرص العمل، بل لزيادة عدد الداخلين في نطاق المساعدات من المتعطلين، المنتمين لشعب نصفه من الفقراء، وليس له أي الشعب أن يحلم بأكثر من إدراج اسمه في «كشف المستحقين»، بعد أن سمعها من مخطط سياسات الحزب الحاكم، ووريث الحكم المقبل، وبالفم الملآن: «فكرة تحقيق الاكتفاء الذاتي في المحاصيل الرئيسية غير عملية». لاحظوا أن «جمال مبارك» لم يبد أدني ملحوظة «ضد» ملاعب الجولف، لكنه عبر بكل وضوح عن موقفه «ضد» القمح. ثم لاحظوا أن هذا بالضبط هو ما يحدث في مصر منذ الأربعاء 14 من أكتوبر 1981، يوم بدأ «الرئيس الوالد» ولايته التي نجح في أن يجعلها مديدة، ببساطة لأنه نجح في تثبيت الزمن منذ ليل ذلك الأربعاء البعيد، الذي مازلنا نعيش ظلامه الدامس. 14 من أكتوبر 1981 هو آخر ورقة تقويم رأتها مصر، ومازالت حتي الآن لا تري غيرها. إذ كل شيء ساكن راكد هامد، والولاية ممتدة بامتداد هذا السكون، وستبقي حية بقدر ما يبقي المشهد ميتا. لاحظوهم وهم يلعبون الجولف بقمحنا، ولا بأس، ويسرقون آثارنا، ولا بأس، يستهترون بنيلنا (بلا نيلة) ولا بأس، ينهبون صناعتنا ويحتكرون قوتنا، ولا بأس، لأننا موتي، وليس بعد الموت بأس. ولاحظوا أن «جمال مبارك» أطلق تصريحه (الشجاع) ضد تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، في السياق الزمني نفسه الذي أُعلن فيه توقيع «د. سعد الدين إبراهيم» لصالح ترشيحه رئيسا للجمهورية، ثم لاحظوا أن الدكتور الموقع تأييدا هو نفسه من جاء من أمريكا مقتحما المحاذير فيما وصف بأنه زيارة عائلية لمدة أسبوعين، لكنها اتسعت كما وكيفا، إذ تجاوزت الأسبوعين، كما تجاوزت حدود العائلة إلي مراقبة انتخابات أسفرت عن تقدم مرشح يوصف بأنه منافس ل«جمال مبارك»، قبل أن تشهد التوقيع التاريخي لصالح الوريث. والجزء الوحيد المؤكد في هذه التفاصيل هو أننا بصدد أمريكا واحدة، وإن اختلفت التوقيعات، وسياسة واحدة، وإن اختلفت المواقع والأدوات! وأخيرا لاحظوا أنه عندما كانت مصر دولة حقيقية، وقبل أن تتحول من عاصمة الحلم العربي إلي عاصمة اللهو العربي.. والأعجمي.. والخفي. لاحظوا أنه عندما كانت مصر دولة لها قلب ينبض، وهوية تستأهل التفكير، كان هناك جدل حول طبيعتها من حيث كونها دولة زراعية أو صناعية. جدل كان يدور، حتي في أحلك سنوات الاحتلال، بين من يريدونها مجرد مزرعة تورد الخامات لمصانع القوي الاستعمارية، وبين من يرونها قادرة علي النهوض صناعيا أيضا، مع بقاء الأخذ بأسباب الزراعة، وهؤلاء رفعوا شعارات من قبيل «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع». هذا هو الجدل الذي كان قائما بين «الوطنيين» و«الاستعماريين»، لكن حتي أشد الاستعماريين عداء لم يتصور، ولا في الأحلام، أن ينفي الصفتين معا عن مصر. وأشدهم صلفا لم يجرؤ علي التصريح بأنه يريد مصر دولة «خنوعية» من الخنوع ويريد شعبها عالة، تطعمه يده الممدودة إلي المساعدات. لكن «جمال مبارك»، وبوضوح، لا يعد بأكثر من زيادة قيمة الإحسانات، وزيادة عدد عبيدها!