قالوا لي في جريدة «الدستور»: لديك مساحة أسبوعية تملؤها ستمائة كلمة، مطلوب منك ستمائة كلمة ..بهذا العدد من الكلمات وبتلك المساحة التي تتسع له أبلور فكرتي أو حكايتي لا أكثر ولا أقل. أتصور أن عمر الإنسان مثل المساحة المخصصة لكل كاتب أو صحفي، فالبعض يتمتع بمساحة أكبر وعدد كلمات أوفر وبالتالي فرصة أوسع. وبعض الكتَّاب لديهم عمود أو حتي نصف عمود، بينما هناك كتَّاب تفرد لهم صفحات كاملة. ولكن لابد للجميع أن يملأ المساحة المعطاة له بالكامل، وأن تكون آخر كلمة في موضوعه هي عند نهاية المساحة المتاحة .في تصوري أننا نعيش أعمارنا لنسطر حكايتنا، ثم نمضي عند انتهاء المساحة المخصصة لنا كبيرة كانت أم قصيرة، لكل منا حكاية، بل كل منا حكاية في حد ذاته. كل منا قد يكون حكاية نظل ننسج تفاصيلها يوما بعد يوم.. حكاية كل منا هي مجمل حياته ما قاله وما فعله وما رفضه وما وافق عليه ومن صاحب ومن عادي ومن أحب ومن كره، وما تبناه من أفكار وما عمل به من قناعات، لمن انحاز وعمن دافع..و مادمنا أحياء فمازالت الحكاية فيطور التكوين بالإضافة أو الحذف، بالتراجع أو بالإصرار، وبانتهاء الحياة نصبح «سيرة» أو حكاية تروي. ولذا أجد قول «العبرة بالخواتيم» قولا رائعا، لأننا في اعتقادي، لا نستطيع الحكم علي نجاح حكاية أو فشلها إلا من خلال الخاتمة ..كم من مرة قلنا ان هذه الرواية أو تلك فاشلة أو ناجحة بناء علي نهاية الأحداث؟ ومن الطريف أنني كلما قمت بتقشير ثمرة من ثمار فاكهة الكيوي البنية القشرة الخضراء القلب، أقطعها بالسكين طوليا فتعطيني أشكالا جمالية بالبذور السوداء علي الخلفية الخضراء، فأهمس لنفسي «سبحان الله» ثم أقطعها عرضيا لأري شكلا جماليا آخر للبذور السوداء التي تتخذ شكل قرص الشمس التي تخرج منها أشعة من جميع الاتجاهات، فأتنهد مرة أخري «سبحان الله» وكأن هذه الثمرة البيضاوية الصغيرة تلخص قدرة الخالق الواحد وإبداعه وتبهرني وتدفعني إلي التسبيح والتسليم ..بأن جمال الثمرة ونقوشها وألوانها تروي حكاية . يقول الكاتب محمد المخزنجي :«للأشجار أرواح، و أرواحها فطنة، و فطنة أرواحها مديرة بيد القدرة». ويقول في مقال آخر : «لم أنظر للجبال من قبل هذه النظرة التي أفرح بها الآن...لم أرها من قبل كقصة ورسالة». إذا كانت للثمرة حكاية وللجبل رسالة وللشجرة درس، أليس من الأولي أن يكون كل منا -نحن بني آدم- بما نفعله وما نمثله علي وجه الحياة قصة ودرسا ورسالة؟ يقول المعجم الوسيط إن الحكاية في اللغة: ما يحكي أو يقص، وقع أو تخيل. ولأن كلاً منا حكاية فإنه لا يحدث التقارب الحقيقي أو التعاطف بين اثنين من البشر، إلا عندما يروي أحدهما حكايته للآخر...الحكاية التي يحتفظ بها بين ضلوعه ولا يرويها إلا لمن وثق واقترب وارتاح له. عندما يسرد لك شخص ما جانبا من حكايته يخفي عليك يصبح أكثر إنسانية في عينيك، وتصبح أنت أكثر فهما له. كل منا يحب سماع الحكايات التي تخص غيره، من باب الفضول ومن باب إقناع أنفسنا بأن حكايتنا هي الأفضل والأمثل. ويحاول البعض التدخل في حياة الآخرين والتأثير فيهم أو أن يملوا عليهم تصرفاتهم وردود أفعالهم.. يصبحون كمن يمسك القلم ويكتب سطرين في قصة غيره. حكايات الآخرين أو سيرهم أكثر إقناعا وثباتا في الأذهان، لهذا كنت أحب سور القصص القرآني وأحب أن أسمع والدي يقرأها أو يرويها لنا ونحن صغار. مازلت أتذكر صوته وهو يقرأ سورة «الكهف» أو سورة «يوسف». ..ويقول الكاتب حسام فخر: «أول هدية أعطتها لي جدتي كانت سورة «يوسف».. كانت تقول علي مهلك استطعم الكلام الجميل ..قل «فصبر جميل والله المستعان»... كما يقول الشاعر نجيب سرور: «حفظت في الكتاب آيات الكتاب، عن ظهر قلب. ونسيتها عن ظهر قلب! إلا علامات علي جسمي لضرب. وغراب هابيل وقابيل وفأسا للخليل». هناك بشر يحكون حكاية التجبر، وآخرون هم حكاية الغلب بعينه، وبشر حكاية للثبات وبشر حكاية للهوان...الناس «حكاوي» تملأ كتبًا وأزمنة.. يقول الله تعالي «اقرأ كتابك، كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا»، لن نكتب حكايتنا فقط ولن يرويها عنا الآخرون فقط بل إننا سنقرأها بين يدي الله.. وننهي الحكاية بقول سيدنا «يعقوب» في حكاية «يوسف» «فصبر جميل والله المستعان».