.. لأربعة أعوام متواصلة قضيت رمضان الكريم في سجني، أصوم وحيداً وأفطر وحيداً. .. عندما كان أذان المغرب يتسرب من بين قضبان السجن، كنت أحن بشدة لمائدة إفطار أمي، ولصوت أبي، وهو يرتل القرآن في صلاة المغرب!! كنت أحن لرفقة زوجتي ونور وشادي ونحن نسابق الزمن والزحام للوصول لبيت العائلة قبل انطلاق مدفع الإفطار!! .. في سجني كانت تعتريني أشواق جارفة لهذه الصورة المحفورة في الذاكرة، التي تسطع فيها صور الأحباب متفرقة ومترقرقة بين الدموع المحتبسة والجدران المعتمة.. وبرودة مشاعر الوحدة!! .. كنت في سجني أقاوم هذه المشاعر بأحلام اليقظة!! كنت كل يوم لحظة الإفطار أوجه دعوة افتراضية لواحد من أحبابي، أجلسه إلي جواري، أشاطره الكثير من الحديث، والحنين، والقليل من الطعام. .. حفل إفطاري في أول أيام صيامي في كل عام من أعوام السجن، كان ضيوفه أمي، وأبي، وزوجتي وأبنائي، حضورهم كان يملأ الزنزانة بهجة، وحناناً، وفرحة بالصيام، ويعطي مذاقاً وطعماً ودفئا للإفطار البارد. . حفل إفطاري الثاني، كنت أستضيف فيه أسرة زوجتي، والدها العزيز، الذي رحل عن الدنيا في سنوات سجني دون وداع بيننا، ووالدتها وخالاتها.. وشقيقيها وأطفالهما وزوجتيهما، حفل كرنفالي لأسر صغيرة تكبر في هذا اللقاء السنوي باجتماعها علي مائدة واحدة وكأنها حضن كبير يجمع ما فرقته أيام العام. .. حفل الإفطار الثالث، كنت أستحضر فيه بقلبي وخيالي أصدقاء الطفولة والشباب، الجامعة وما بعدها، المجلس والحزب، رامي لكح الذي كان يفطر معي في بيت أمي في أول أيام رمضان، وإيهاب الخولي، ووائل نواره، وصديق الطفولة أكمل تمام، وزملاء الوفد عادل القاضي، ومصطفي شفيق والمرحوم أحمد كمال، وأيمن عبدالعال، وآخرين كانت تتسع لهم مائدة السجن رغم ضيقها وفقرها. .. حفل إفطاري الرابع في سنوات سجني الأربع، كان مع عروس البحر الحبيبة الإسكندرية، حيث كان قلبي يجرفني إليها حيث أشتاق لرائحة أمي، وصورتها الباقية بين أهداب خالاتي وصفاء قلوبهن، في هذا اليوم كنت أشعر وكأنني أسير بخجل كالطفل الذي دعاه الحنين لفردوسه المفقود، أنتقل بمشاعري بين المنارة وهي مدافن الإسكندرية التي ترقد فيها أمي وجدي وجدتي وأسير منها لمنزل أستاذي ومعلمي الدكتور الشافعي بشير الذي يفصله عن المنارة طريق الحرية. .. خامس أيامي في رمضان خلال سنوات سجني، كنت أنتقل بقلبي خارج سجني وتحديداً لدائرتي باب الشعرية والموسكي، حيث الإفطار خارج القضبان، وتحديداً في ذلك الميدان، الذي كان بيتي الثاني، حيث تحيط بنا المساجد، والمآذن الفاطمية، ويرتفع الأذان في كل مكان، من عشرات الزوايا والتكايا وحولنا مئات الأطفال يتغنون، ونساء، ورجال ومريدون، وشباب مخلصون، وفوانيس خلفها فوانيس من البشر لا تنطفئ جذوة حماسها أبداً!! .. في سادس أيام إفطاري في سجني كنت أمد طاولتي كي تتسع لإفطار الوحدة الوطنية الذي اعتدت أن أقيمه كل عام- طوال 15 عاما مضت- حيث يجتمع حوله رموز الأمة من مسلمين وأقباط، عمامات سوداء وبيضاء، ورموز للثقافة والحوار وحتي بعض رموز النظام!! .. أول أيام رمضان هذا العام قضيته مع أمي في قبرها.. وفي باقي الأيام ظللت أبحث عن آخرين لا ظل لهم في الواقع حتي الآن. .. مضي الأسبوع الأول من رمضان.. خارج القضبان، حيث لا قيود في الدعوة، ولا مبرر للاستعانة بالخيال عن واقع متاح، وغير متاح!! .. اليوم أشعر أن رمضان في السجن كان أكرم بكثير، وأن مائدتي الافتراضية كانت أكثر رحابة من واقع تتجاوز قسوته قسوة السجن والسجان، وقيود القضبان وغدر الإنسان بالإنسان. .. حقاً.. لم يعد في الناس أمان!! لم يعد للناس أمان!! .. في رمضان ليس مهما طعام البطون، والصحون، وضيافة الدور أوالقصور، فما قيمة كل هذا إذا غابت المشاعر ولم يعد متاحاً غير زيارة الأحباب في المقابر؟! .. وصدق القائل: «أحبب حبيبك هونا ما فعسي أن يكون بغيضك يوماً ما»!! .. وصدق الشاعر الذي قال: .. خليلي لا والله ما من ملمة .. تدوم علي حي وإن هي جلت .. فإن نزلت يوماً فلا تخضعن لها .. ولا تكثر الجفا إذا النعل زلت .. فكم من كريم قد بلي بنوائب .. فصابرها حتي مضت واضمحلت .. وكانت نفسي علي الأيام عزيزة .. فلما رأت قدر صبري علي الغدر ذلت