«أشكر الله أني ولدت يونانياً لا بربرياً.. حراً لا عبداً.. رجلاً لا امرأة.. ولكني فضلاً عن ذلك أشكره أني عشت في زمن سقراط».. لأن إيماني لا يقل عن إيمان «أفلاطون» صاحب تلك المقولة.. لذا..اسمحوا لي أن أنحو نفس المنحي بتاعه.. وأشكر الله أيضاً علي أني قد ولدت مصرياً مش أي حاجة تانية.. حراً لا عبداً.. رجلاً لا امرأة.. ولكنني فضلاً عن ذلك أشكره أني عشت في زمن الرئيس مبارك.. وسوف أتخذ من شوية الباراجرافات اللي جايين سبيلاً لشرح وتقصيص معني ومغزي ودلالة كل «شكراً» من الأربع «شكرانات» اللي فوق.. يا مسهل.. فأما بالنسبة لشكراً الأولانية والخاصة بأني قد ولدت مصرياً مش أي حاجة تانية.. فاسمحوا لي في البداية وقبل ذكر سبب الشكر أن ألفت انتباهكم إلي اختلافه كل الاختلاف عن أمنية الزعيم المصري مصطفي كامل والمتمثلة في أنه لو لم يكن مصرياً لتمني أن يكون مصرياً.. فشتان الفارق بين بني آدم يشكر ربه علي أنه قد خلقه مصرياً بالفعل.. وبين بني آدم آخر يؤكد أنه لو لم يكن ربه قد خلقه مصرياً.. وخلقه تبتياً مثلاً.. لكان قد أنفق لياليه منعزلاً علي إحدي قمم جبال التبت باكياً وناعياً حظه ومناجياً ربه لكي يخلقه تاني.. بس مصرياً.. مش تبتياً.. شتان هو الفارق بين شكر ده.. وأمنية ده.. لذا لزم التنويه.. وشكراً. نعود للسبب الذي يجعل البني آدم منّا ممتناً بمصريته.. شاكراً الله عليها.. وهو السبب المتمثل في عبقرية الدراما غير المسبوقة.. أين يمكن للبني آدم منّا العثور علي عبقرية غير مسبوقة علي مستوي الأمم مثل عبقرية مصر.. تلك العبقرية المتناقضة والعبثية والنادرة والقادرة علي الجمع بين ماضي 7 تلاف سنة حضارة.. وحاضر 7 تلاف سنة ماضي.. تلك العبقرية القادرة علي الجمع بين ماض كنا أسياده ومصدر إضاءته ونور عبقريته.. وبين حاضر أصبحنا عبيده وعالمه الثالث وظلام تأخره.. أين يمكن للبني آدم منّا أن يجد شعباً عبقرياً مثل الشعب المصري الجميل الصامد والثابت في وجه كل من تعاقبوا علي حكمه.. بدءاً من مينا موحد القطرين وانتهاء بالرئيس مبارك.. أي شعب عادي كان زمانه «فيَّص» من زمان.. ولكنها عبقرية مصر وعبقرية شعب مصر وعبقرية الموقع الجغرافي لمصر وعبقرية الدراما غير المسبوقة التي يتشكل من حكاياتها تاريخ مصر.. إنها عبقرية الصراعات الدرامية المتداخلة في بعضها بشكل عبقري والتي تملأ شوارع وبيوت وصدور الناس في مصر.. مصر الحضارة العظيمة.. التي علّمت العالم أساسيات كل حاجة.. فلما تعلمها.. أنتخت هي ونامت.. وتركت العالم يواصل تطوره براحته بعيداً عنها.. هل ترون أن الحياة فيلم سينما طويل من نوعية الكوميديا السوداء العبثية؟! إذن.. عليكوا وعلي مصر! كان هذا عن «شكراً» الأولانية.. أما بالنسبة ل«شكراً» الثانية.. والخاصة بأني قد ولدت حراً لا عبداً.. أتصور أنها واضحة.. ولا تحتاج للشرح.. وأما بقي بالنسبة ل«شكراً» الثالثة.. والخاصة بأني قد ولدت رجلاً لا امرأة.. فهي وإن كانت تبدو في مقولة «أفلاطون» أنها تنطوي علي تقليل من شأن المرأة.. فدعوني أؤكد لكم أنها في المقولة بتاعتي أنا لا تنطوي علي ذلك إطلاقاً.. بالعكس.. تنطوي علي خالص التقدير والاحترام والحب للمرأة..لذا.. أشكر الله علي أنه قد خلقني رجلاً.. لأصبح قادراً علي التعبير عن كل تلك الكمية العارمة من الحب التي تملأ صدري تجاه كل امرأة جميلة علي ظهر هذا الكوكب! نيجي بقي ل«شكراً» الرابعة والأخيرة.. وهي «شكراً» التي تختزل بداخلها 30 عاماً من سنوات عمري القليلة.. شكراً علي أني عشت في زمن الرئيس مبارك.. فهي فرصة لم تتح للكثيرين من أبناء كوكبنا الأرضي الجميل..القليلون فقط هم من يحظون بمثل تلك الفرصة التاريخية النادرة.. أن يحكمهم رئيس واحد وحزب واحد ووجوه واحدة لمدة 30 عاماً.. ولهواة الصيد في الماء العكر.. دعوني أؤكد لكم أنها شكراً صادقة وبجد.. فمعاصرة رئيس واحد لفترة كبيرة مثل تلك قادرة علي منحك رؤية أوضح للأمور.. أو بمعني أصح.. لما آلت إليه الأمور.. تستطيع الآن وأنت مضطجع علي الكنبة بجوار البلكونة في ساعة عصرية ترتشف من كوب شاي في يدك أن تسرح في تفاصيل سنوات عمرك الماضية والتي أنفقت منها 16 سنة في مدارس وجامعات مصرية وحكومية كأقصي ما تكون الحكومة.. لولا حدوث ذلك.. لما كنت قد أصبحت قادراً علي وضع يدي علي موضع الخلل في مصر بشكل محدد تماماً.. كان لابد أن أجرب بنفسي يعني إيه مفيش اهتمام في المدارس بالأنشطة والفنون.. لأعلم السبب الحقيقي وراء كل ذلك النحت الرخيص الذي يتم طرشه في وجوهنا وفي آذاننا يومياً عبر شاشات التليفزيون والسينما وعبر سماعات الكاسيتات و«الدي في دي بلايرز».. كان لابد أن أري بنفسي كيف يتعامل المدير مع المدرسين والطلبة في المدرسة ثم كيف يتعامل مع وكيل الوزارة عند زيارته المفاجئة للمدرسة (والتي غالباً ما تكون معروفة قبلها بيومين).. لأعرف كيف يتعامل الوزير مع رجاله في وزارته ثم كيف يتعامل مع رئيس الوزراء بعد ذلك.. ثم كيف يتعامل رئيس الوزراء مع الرئيس.. لولا تجربة ليلة التعليم ما كنت قد تمكنت من فهم ليلة السياسة.. كان لابد أن أري بنفسي المكتبة في تلات تربع مدارس مصر، وقد أصبحت مكاناً لإفطار واجتماع المدرسين والمدرسات حتي أستطيع أن أفهم السبب الحقيقي وراء خلو ال500 جامعة الأولي علي مستوي العالم من جامعة القاهرة.. كان ينبغي عليّا أن أقضي 4 سنوات في كلية لم أحلم يوماً بدخولها.. لأكتشف في نفسي أشياء لم أكن أعرفها من قبل.. كان ينبغي عليّا أن أقضي 4 سنوات بدون أنشطة فنية أو مشاركة سياسية (رحلات وحفلات وبس) أو قدرة علي التعبير عن النفس.. كان ينبغي أن يحدث هذا.. لأستطيع أن أقفش وأقرر التعبير عن نفسي! خلال ال30 عاماً الماضية.. استوعبت وفهمت الكثير والكثير مما لم أكن أعلمه من قبل.. مفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وتداول السلطة والشفافية وحرية تداول المعلومات.. وبصرف النظر عن أن إدراك تلك المفاهيم جاء عن طريق تطبيق مبدأ معرفة الشيء بضده.. بمعني.. س: «إيه هو تداول السلطة؟»، ج: «هو اللي ما بيحصلش هنا».. وهكذا.. إلا أن المعرفة المتكئة علي مثل هذا المبدأ معرفة أرسخ وأقوي وأكثر تأثيراً في ذاكرة ونفسية البني آدم منّا.. من منطلق أن شغفك بما تتمناه ولست تملكه.. أرسخ بكثير من شَغفك بما تملكه بالفعل.. وربما كان هذا هو السبب الحقيقي وراء شغفي بالتعليم.. بالتعليم اللي بجد.. وهو الشغف الذي ارتكزت قوته الحقيقية وإحساس البني آدم منّا به علي ركيزة أساسية ومهمة جداً.. ألا وهي.. غيابه! الآن.. أعلم أني لو لم أتعلم في مدارس وجامعات مصر وفي تلك الحقبة التاريخية التي تجلل جبهتها نقطة سوداء مكتوب عليها.. «التعليم».. ولو شاءت لي أقداري أن أتعلم بجد في مدارس بجد.. وفي جامعات تتعامل مع عقلي بجد.. لو حدث هذا.. لما كنت قد فهمت شيئاً فيما يخص الدراما العبقرية المصرية غير المسبوقة.. ولما كنت قد استطعت أن أضع يدي علي موضع الخلل الرئيسي.. وهو.. التعليم المصري الذي لا يمت لكلمة «تعليم» من بعيد أو من قريب بأي صلة! لهذا كله.. أحمد الله الذي خلقني مصرياً أعيش خلال تلك الحقبة التاريخية المصرية المباركة أزهي أيام فِهمي للأمور.. أحمد الله علي جعلي معاصراً لنظام الحكم الحالي.. متعلماً في مدارسه وجامعاته.. شارباً من مياهه.. واكلاً من فاكهته وخضرواته.. مبرطعاً في شوارعه وميادينه.. متعاملاً مع منظماته ومؤسساته ومجمع تحريره.. أحمد الله.. فلولا ذلك لما كنت قد فهمت شيئاً عن تلك الدنيا «الفونيا».. ولما كنت قد عرفت حاجة عن ذلك الزمن «الكبَّاس»! أحياناً.. في نوبات تأملاتي الوجودية كنت أحقد علي أجدادي الفراعنة.. هؤلاء الذين شاءت لهم أقدارهم أن يكون ال Casting بتاعهم في تلك الحقبة الفرعونية القديمة.. علي أساس أنهم هم الذين شاهدوا وشهدوا تلك اللحظات العظيمة التي كانت الحضارة التي مهدت الطريق لنور البشرية تنبني فيها أمامهم.. الآن.. نسيت حقدي كله في لحظة.. وأصبحت أري أنه لا داعي لهذا الحقد.. فها أنا أيضاً أتمتع بميزة لم يتمتع بها هؤلاء الراحلين منذ آلاف السنين.. وإذا كانوا هم قد شهدوا تلك الحضارة العظيمة تنبني أمامهم.. فها أنا أشهد نفس الحضارة العظيمة.. بس وهي بتنهدم أمامي.. لحظة تاريخية بقي.. ولا مش تاريخية!