إن السياسة... المنهج... الفكر وفلسفة منهاج الوظائف العامة في مصر نهج شاذ... غريب... شارد لا يتوسد علي أسانيد تنسجم وتلتئم مع المعايير التي تعتنقها الأنظمة الصاعدة التي قفزت إلي الصدارة وانتظمت في مصاف الدول الناهضة. ولعل أول ما يطوف في الخيال ويثير ألف سؤال أنه من أوليات... أبجديات... بديهيات.. معطيات نظم الحكم أن الدولة في فقة القانون الدولي العام من شرط وجود وقيامها لكي يكتمل لها وتستتم مكوناتها وحاصلها الأرض... والسكان... والسلطة الحاكمة... وأنه ولئن تحققت مقومات السيادة.. إلا أن الركن الركين في جميع الأنظمة السياسية ينصب علي مدي سلامة سياسة إدارة دفة الحكم.. وذلك رهن باكتمال العناصر التي تنعقد لها الكفاءة والتجربة والخبرة في شتي ضروب الحياة وشعابها.. وهذه النخب تتوارث جيلاً بعد جيل القدرة والاقتدار في كل أنماط الإدارة وأطيافها.. والعجيب في شأن مصر أنها من أقدم دول العالم التي عرفت موظف الدولة «الكاتب المصري» الذي يصوره الفنانون شكلا وموضوعاً وقلما بل ولغة التعامل مع المحكومين ولقد أتي حين من الدهر يقع في النصف الثاني من القرن الماضي كان اختيار الذين يمسكون برقبة زمام المناصب بتدرجاتها المختلفة تتوسد علي أهل الثقة وليس أهل الخبرة وكان ذلك مدعاة وسبباً أن تولي زمام إدارة الدولة عناصر تفتقد إلي البصر والبصيرة تمثلت بأن يقفز إلي أعلي المناصب والمقاعد في العمل الدبلوماسي في الخارج وشغل جميع المناصب هذا التخصص الرفيع ممن يفتقدون الأهلية والصلاحية حتي اللغات الأجنبية واستتبع ذلك انزواء وإطفاء الأضواء علي ذوي القدرة والاقتدار. ومن هنا بدأ الخط البياني في الهبوط والوهن وتفشي الإهمال.. اللامبالاة.. التسيب... واستطال ذلك كله إلي الفساد حتي إنه أضحي من الندرة توافر أو حتي العثور علي النقاء والطهارة والترفع عن الدنايا والانخراط أو السقوط في هاوية الرذيلة.. الرشوة. وفي هذه الهوة السحيقة تصاعدت أوجه الرذيلة حتي طالت أرفع المناصب القيادية إن لم نفتح أدراج المكاتب إخفاء للرذيلة والمكاسب فإن الانحدار والتردي لم يقف عند هذا المدي المتدني ولكن ويا للهول فإن النظام الحاكم إذ أدرك مؤخراً ومتأخراً العواقب والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية والضياع لملايين الشباب من خريجي الجامعات الذين يعيشون علي أرصفة البطالة وفقدان الأمل أو الحصول علي عمل فقد تفتق الذهن السياسي ليس عن بناء مشروعات تستوعب ولو جزءا من الشباب الضائع بل زاد الطين بلة بأن استحدثت معاول جديدة لهدم ما تبقي بعد أن باعت وأضاعت المؤسسات والشركات والمصانع.... والمزارع والأرض والعرض... وذلك كله بإحالة آلاف العاملين ممن في سن الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وما بعدها إلي ما أطلقوا عليه المعاش المبكر حاملين معهم عند رحيلهم الكفاءة والخبرة. وعن الإدارة والمعرفة والعلم وكل تراكمات الثروة البشرية حصيلة عشرات السنين من فنون الإدارة البناءة - وأن القصد والغاية هو إحلال شباب الخريجين في الأماكن الشاغرة وصولاً للمباهاة بفتح آفاق فرص عمل للعاطلين من الشباب ويتبدي ذلك بجلاء في مواطن التعامل في البنوك وهم شباب تنقصهم الخبرة ويفتقدون ذوي القدرة والقدوة ولا حول لهم ولا طول.. إذ يعهد إليهم بأعمال دون أن يستوفوا المران الذي يؤهلهم للعمل في مثل هذه الأماكن وفي غيبة وغياب أساتذتهم القدامي الذين نجم عن رحيلهم أن فقدت مصر الكفاءة والخبرة والعلم والدراية وأن يصبحوا شريحة فاقدة ومفقودة في حالة انزواء في مساكنهم في إحباط ويأس قاتل وظلام دامس لبادرة أمل... ومن أني يكون لهم بعد أن تحول مأواهم إلي أركان منازلهم مصطحبين أبناءهم من جيل الضياع. يا أيها القارئ لم يدر بخلدي تقديم صورة حالكة الظلام في الحاضر والمستقبل ذلك أنه يتبقي ما يثير السخط حتي إن المواطن يصارع المرارة والأسي منذ أكثر من ربع قرن من الزمان فإن أفرادا بل قل معي أعدادا عديدة وكثيرة تحتل مناصبها.. مواقعها .. مراكز سلطتها تنعم بالسلطة والثروة منذ عشرات السنين في أخطر مواطن الحكم والتحكم.. ولعل المثل القارع المفزع أن من بينهم قمة السلطة من الوزراء الذين يحتلون مناصبهم ويبقون فيها عشرات السنين رغم ما يشاع.. يذاع... ينتشر ... يتواتر... بل وتتوافر القاطعة والساطعة علي سوء السمعة وترتبط بأسمائهم كل السوءات والسيئات والانحرافات التي تقع تحت طائلة العقوبات حتي إذا أزيح أحدهم لسبب غير معروف أو مألوف تنبعث الروائح الكريهة بل قل الفضائح والرذائل التي تستوجب مثولهم أمام محاكم الجنايات ولكن مما يثير العجب ويفجر الغضب أنه ينبري أقرانهم وسماسرتهم والمستفيدون من الرذائل التي اقترفوها والتي تلطخ أشخاصهم وأسرهم وأصهارهم وجماعات المنتفعين من حولهم، ولكن مما يرسب الغصص في النفوس و صورة الحزن في الكئوس أنه كلما شاع أمرهم وانكشف سرهم فإن الرد هو العناد والالتفات عن القال والقيل. وهنا ينهض السؤال: عن العلة.. السبب.. الباعث.. المبرر عن بقاء أو استمرار الوزراء عشرات السنين في مناصبهم بل قل ويجاوزون العشرين سنة وهل أجدبت مصر وهل عقمت المحروسة من الرجال والكفاءات والقادة.. والنجباء والعلماء لإزاحة هذا الكابوس الذي يرقد علي أنفاسناً.. حالة أن هذه السياسة الكئيبة تجعل الواحد منهم يزداد عتوا وسلطانا وتفردا واستبدادا وحجب مولد جيل من بين مرءوسيهم يفوقونهم قدرة واقتدارا وطهارة ونقاء. يا أيها السادة إن سؤالا ملحا يلح علي .. يلاحقني... يطاردني عن الفلسفة السياسية التي ننتهجها وهي أنه إذا ما رحل وزير من الحكومة فإنه يمتنع... يستحيل.... يستعصي إعادة تنصيبه مرة أخري بل يظل قابعا.. وكأنما أسدل عليه الستار أو بلغ عمر الموت السياسي وفي حين أن جلهم يحظون بقدرات.. وخبرات.. واقتدار وهل يعني ذلك أنه أضحي محرما عليه أن يعود إلي مكانه ومكانته أن النظام الحزبي المصري في شأن تداول السلطة إذا ما عاد الحزب بانتخابات حرة نزيهة أن يعود الوزير السابق إلي سابقة عهده. إن هذا المنهج الذي أضحي عرفا أو قاعدة يستتبع حرمان مصر من رجالات أدوا أدوارا رائعة وفذة وأن من حقهم علي مصر ومن حقها عليهم ألا يندرجوا في قوائم الموت السياسي. إننا نطالب بإلغاء نظام المعاش المبكر ونطالب بإعادة أولئك وهؤلاء إلي قواعدهم وفق نظم رواتب جديدة يراعي فيه استنزال ثمن بيعه وإعادة شرائه من جديد هذا وذلك... أو الطوفان.