المتعاملون مع نظرية المؤامرة فريقان متضادان، أحدهما ينظر إليها بسخرية واستخفاف ومنطق أنها تريح الضعفاء والفاشلين علي اعتبار «إن الغرب من فعلوا بنا كذا وكذا» ، والثاني يتعامل معها باعتبارها «نصا مقدسا» لا يمكن التشكيك فيه وهو أمر يسمح للنظرية- ومن خلفها الغرب- بأن تكون المسئولة عن كل شيء حتي «الضعف الجنسي» !، لكن أياً كان المعسكر الذي ينتمي إليه القارئ فلابد له من قراءة هذا الكتاب شديد الأهمية الذي ينتصر لنظرية المؤامرة في أغلب صفحاته لكن المدهش أن مؤلفيه غربيين وليسا عربا يعانون من «عمي» نظرية المؤامرة. قراءة كتاب «صناع الملوك.. هواة ومغامرون.. جواسيس ومتعصبون» لابد أن تتم بحذر أيضا لأن المؤلفين يتعاملون مع الشخصيات الوارد ذكرها في الكتاب باعتبارهم» ضحوا بحياتهم وصحتهم لنشر ما اعتقدوا أنها قيم حضارية»، وهو أمر تفنده المترجمة الكبيرة د.فاطمة نصر في مقدمتها للكتاب مؤكدة أن الشخصيات الوارد ذكرها في الكتاب «بذروا بذورا شيطانية نمت أشجاراً من زقوم سممت ثمارها جسد المنطقة، وأشعلت فروعها بنيران يكتوي بها أهلها»، ولعل السطور السابقة ليس بها أي تجني. ذلك أن قائمة الشخصيات التي يستعرضها الكتاب تضم أسماء دورها الفاسد والشيطاني في المنطقة معروف لكثيرين مثل «اللورد كرومر الحاكم البريطاني لمصر في السنوات الأولي الحرجة من الاحتلال، ولورانس العرب، وسايكس، وبول ولفوتينز نائب وزير الدفاع الأمريكي أثناء غزو العراق والمعروف بأنه «المخطط الفكري لعملية الإطاحة بصدام حسين» ، صحيح أن فصول هذه الشخصيات مليئة بمعلومات قد تكون جديدة علي كثيرين، لكن قراءة فصول الشخصيات «الغامضة» في صناع تاريخ الشرق الأوسط ربما يكون هو ما تسمح به هذه السطور. اسمها «فلورا شو» صحيفة بريطانية لعبت دورا بارزا في مد النفوذ الاستعماري الإنجليزي في الشرق الأوسط، لدرجة أن زوجها أصبح المندوب السامي البريطاني في نيجيريا، وكانت هي أول من سجل اسم «نيجيريا» كدولة مطبوعا في جريدة، كانت تعمل في صحيفة غير مشهورة، لكنها عندما أتت إلي زيارة مصر في شتاء 1888-1889 استطاعت بعلاقاتها وقدرتها علي استخراج المعلومات بيسر وسهولة من أصحابها أن تكتب مقالا عن الإصلاحات المالية في مصر، وعندها قرأ «آرثر وولتر» مالك صحيفة التايمز الشهيرة هذا المقال صرخ قائلا: «أيا كان كاتب هذا المقال فهو من النوع الذي يجب أن يعين بالتايمز»، وقد كان، لتلعب «فلورا شو» لاحقا ومعها جريدة التايمز- في عصر كانت الأخبار فيه تنتقل من مكان لآخر في شهور- دورا بارزا في مؤامرة لتغيير نظام «البوير» في جمهورية الترانسفال بالقوة.. وهي مؤامرة ستلقي مصيرا فاشلا لا يقل سوءا عن حرب السويس عام 1956 كما يقول الكتاب، لكن لهذا لم يمنع الكاتبة الرحالة البريطانية «ماري كينجزلي» لوصف «فلورا» منافستها اللدود بأنها: «صلبة حادة كالمسامير ومشبعة بالنسخة الجديدة من الإمبريالية العامة.إنها دينها»! وإذا كان البعض يظن أن الرجال هم من يصنعون التاريخ، فإن كتاب «صناع الملوك» يؤكد العكس تماما، حينما يورد اسم امرأة أخري ضمن 12 شخصية من صناع الشرق الأوسط.اسمها «جرترود بل» والفصل الخاص بسيرتها في الكتاب معنون ب"غارقة حتي رأسي في تصنيع الملوك والحكومات»، كيف لا، صحيح قد كانت هي المرأة الوحيدة التي حضرت ذلك الاجتماع الرهيب في فندق «سميراميس» بالقاهرة في 12 مارس 1921 ذلك الاجتماع الذي سيعرف فيما بعد بأن جميع من لهم علاقة بالشرق الأوسط موجودون هناك» وقد حضره رئيس الوزراء البريطاني «تشرشل» بنفسه لكن في إطار مضاعف من السرية طبعا. لم تكن «بل» مجرد مغامرة بريطانية نالت شهادة الجامعة من أكسفورد بدرجة امتياز. لكنها في مرحلة لاحقة وبحكم علاقاتها بالمندوبين البريطانيين في الدول المحتلة بالشرق الأوسط، وبعلاقاتها مع الأعراب والقبائل التي كونتها بحكم سفرياتها المتعددة بين بيروتوالقاهرة وصحاري المنطقة في أن ترسم - حقيقة وليس مجازا- خرائط لبعض مناطق الشرق الأوسط كآبار المياه وبعض السهول والجبال، ولاحقا وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولي وتحديدا في عام 1915 ستسافر إلي القاهرة لتلتحق بالمكتب العربي التابع للإمبراطورية البريطانية والذي كانت مهمته «جمع الاستخبارات ورسم الخرائط وتوليد البروباجندا، وحفز العرب للثورة علي الأتراك»، وهو دور يسميه الكتاب بأنه «تقديم خدمات لبلادها»، وهي نقطة تقف عندها المترجمة بصرامة لتوضح أن الترجمة الحقيقية لذلك هي أنها كانت «جاسوسة» ليس أكثر ولا أقل! لكن لم يكن هذا هو الدور الوحيد الذي لعبته، بل لعبت دورا حاسما في السنوات الصعبة للاحتلال البريطاني في العراق وكانت من أكثر الداعين إلي نقل المسئولية إلي غير البريطانيين الذين أنهكتهم سنوات الاحتلال، وتم لها ما أرادت عام 1921عندما تم تنصيب الأمير فيصل- حاكم سوريا - حاكمًا للعراق الذي كان تحت الاحتلال البريطاني، بل إنها كانت المهندس الفعلي لحفل تنصيب فيصل في أحد شوارع بغداد علي عرش خشبي- قيل إن صناعته تمت من خشب حاويات البيرة!- ووصل دورها لأنها هي من صمم علم العراق الجديد ووضعت النشيد الوطني ولهذا كان من الطبيعي أن تصفها التقارير الإخبارية بأنها «ملكة العراق غير المتوجة»! هكذا يستعرض الكتاب بأسلوب حكاء وبترجمة ممتعة تاريخ هؤلاء المغامرين والمتعصبين والعملاء الذي تحركوا داخل دوائر متعددة بهدف تفتيت الإمبراطورية العثمانية وتوسيع إمبراطوريتهم بهدف الاستيلاء علي المنطقة وثرواتها.. ولعل الكتاب بمحتواه هذا تكون قراءته فرض عين علي كل أبناء هذه المنطقة المنكوبة من العالم بمستعمريها وحكامها، لعلهم يستطيعون مقاومة «صناع الملوك» ولعلهم ينجحون يوما في صناعة ملوكهم بأنفسهم.. قل يارب! الغلاف: من تصميم حسين جبيل.كولاج يضم مقطعا من تمثال الحرية والعلامة التجارية لشركة بترول شهيرة، وظلال لرجال وسيدات يحملون السلاح ويحفرون الأرض. إنهم صناع الملوك يا سادة!