في وقفتنا الأخيرة مع كتاب «الحرية والثقافة» لجون ديوي نكتشف واحدا من القيود المهمة التي تعوق الديمقراطية وهي «الجماعية»، فالنظام الاستبدادي الجماعي يوجِّه حياة رعاياه جميعهم توجيهًا عامًا يشمل كلَّ ناحيةٍ من نواحيها، وذلك بأن يفرض سلطانه علي أفكارهم ويوجِّهها نحو أهدافه. وفي واقعنا تمثل سيطرة الدولة علي الثقافة والتعليم وحركة الاقتصاد أهم وسائل الدولة لتحقيق ذلك. ويقرر ديوي حقيقة مهمة جدا لأجل فهم أفضل للاستبداد هو أن: «هذا الصراع...... أمرٌ ذاتيٌّ مستقرٌّ في صميم كلِّ نظام من نُظم الحُكم يتطلَّب ولاءً كاملاً من جميع الرَّعايا الخاضعين له.. فإن شاء مثل هذا النظام أن يستقرَّ وتتوطَّد أركانه يجب عليه قبل كلِّ شيءٍ أن يُسيطر علي أخيلة الناس سيطرةً شاملة». فهل نحن في حاجة لإعادة النظر في دور الخيال في السياسة؟ - وبعد الخيال تأتي الأخلاق ويري ديوي أن اجتماع عدد من الناس ليكوِّنوا ما يمكن أن نُسمِّيه «أمَّة» بالمعني الحافل لهذا اللفظ يجب أن تتوافر لديهم أولاً قيمٌ مشتركة بينهم يُقدِّرونها جميعًا؛ والمشهد الأخلاقي المصري يحفل بمتناقضات في قضايا أساسية وتفاوت شاسع بين ما نقول وما نفعل، فلا تستطيع علي وجه القطع أن تعرف ما المشتركات العامة بيننا. ويقر ديوي - علي عكس كثير من غلاة العلمانيين المصريين - بأن الدين لهو دور رئيس في تنظيم الحياة، فهو علَّم الناس أن يؤمنوا بأنَّ القوي الكونية والقوي الاجتماعية قد نُظمت بشكلٍ يجعلها في مكانة الغايات والمقاصد الأخلاقية. ويقول ديوي حرفيا إن: «إنكار أنَّ للقيم سلطانًا علي توجيه الحوادث هو من اعتقاد الماركسيين بأنَّ قوي الإنتاج وحدها هي التي تُسيطر آخر الأمر علي جميع علاقات البشر بعضهم ببعض». ومن الدين أخذت الفلسفات والأيديولوجيات فكرة «الفطرة» وهنا يقرر جون ديوي أن: «كلُّ فلسفة اجتماعية وكلُّ فلسفة سياسية يعترف بها جمهرة الناس تظهر لنا بعد الفحص أنها تتضمَّن وجهة نظر معيَّنة خاصة إلي الطبيعة البشرية من حيث هي في ذاتها ومن حيث علاقتها بالطبيعة الفيزيقية المادية كذلك»، إن الحركات التنويرية والعقلانية التي تدعي أن هدفها تحرير الإنسان من قيود الغيبيات هي نفسها قامت علي غيبيات!!! ويحذر ديوي - وهو محق - من عزل عاملٍ واحد من العوامل وإفراده عن سائرها مهما كان أثر هذا العامل قويًّا في وقتٍ معيَّن مضرٌ كلّ الضرر بحُسن الفهم وبالسلوك المعقول، وقد كان هذا العزل كثير الحدوث سواءً كان من حيث اختيار عنصر واحد من مقومات الطبيعة البشرية واعتباره الدافع الأسمي، أو من حيث اختيار شكلٍ واحد من أشكال النشاط الاجتماعي واعتباره الشكل الأسمي. فالقول بأن الاقتصاد وحده أو العدالة الاجتماعية وحدها أو الحفاظ علي الخصوصية الحضارية وحده أو مواجهة الخطر الخارجي وحده العامل الأول أو الأوحد الذي يحدد وجهة النخبة وجدول أعمالها هو كهف نحبس فيه عقولنا وبالتالي نغلق بأيدينا أفق المستقبل. ويدعو ديوي بعد ذلك إلي استثمار تأثير العادات والتقاليد من خلال إرساء عادات وتقاليد عادلة، ولم يهتم دعاة الإصلاح في بلادنا حتي الآن بأهمية الإصلاح الاجتماعي. وبينما يحفل واقعنا الثقافي بكم كبير من الأدبيات التي تمجد الدولة المركزية الوطنية بوصفها «أعز ما يملكه الإنسان العربي»! يكشف ديوي عن أن هذه الفكرة ابتدعها الفيلسوف الألماني هيجل حيث مجِّد الدولة وقدَّم فلسفةً للتاريخ قرَّر فيها أنَّ مجري التاريخ تسيره دولة مستبدَّة «لا يكون حرًّا فيها سوي شخصٌ واحد»!!!!! وطبعا الحر الوحيد هو الفرعون، لكن المثير أن ديوي يكشف عن أن جانبا من الخطاب الأمني المصري له أصل فكري وليس مجرد ترديد لمقولات تبريرية، فهيجل الذي كرس فكرة «الدولة المتألهة» بذر في الفكر الأوروبي بذرة القول بوجوب التمييز بين «الحرية» و«الاستهتار»؛ فالحرية في الفكر الأوروبي ونسخته المصرية الأكثر تشويها هي «الحرية في ظلِّ القانون». وطبعا القانون تضعه المؤسسات التشريعية، والمؤسسات التشريعية تصنعها الأجهزة الأمنية، والأجهزة الأمنية علي قناعة بأنها في مهمة مقدسة لحماية هيبة الدولة، وبأنها تملك الحق في الوصاية علي الشعب، لأنه حسب التصريح الشهير لأحمد نظيف «غير ناضج»........ وهكذا نظل نتدحرج من أكذوبة وقحة إلي أخري أكثر وقاحة، والبداية الصحيحة هي من الثقافة أولا قبل السياسة وقبل الاقتصاد.