التعاسة الطاحنة للفقراء في مصر صارت زادا يوميا يفطر القلوب ويقض مضاجع من يحملون قلوبا ومازالوا يشعرون بوخز الضمير. ولكن كل فترة تحمل إلينا الأخبار مأساة إنسانية صارخة تحيل الحياة جحيما لا يطاق وتجعل المرء يود لو احتضن شخوصها البؤساء، وقاتل المسئولين عن مأساتهم.. لقد اقترن الفقر، كما أصبح بادياً للجميع، بعنف كاسر في مصر مؤخراً. في الأحوال الطبيعية لا ينهض الفقر سببا للعنف البربري والدموي، الذي ننزه نحن عنه والذي تتصف به الوحوش في الغابات، لكنه أصبح لصيقا بسلوك المصريين حتي تناقتها مصادر الأنباء وكأنه أضحي أمرا عاديا في أرض الكنانة. فالفقر كان متوطنا في مصر سابقا ولم يصاحبه السلوك الدموي العنيف الذي نتجرعه بشكل شبه يومي في مصر هذه الأيام. صحيح كان هناك دائما فقر في مصر. ولكن طبيعة الفقر، والغني، اختلفت في مصر تماما. فالفقر ليس فقط استشري ولكن أيضا أصبح طاحنا حتي لم تعد تصح مقولة «لا أحد ينام جائعا» في مصر. وعلي من لا يصدق أن يمعن النظر في ملايين أطفال الشوارع، وأنكدهم مواليد الشوارع الذين تحمل بهم أمهاتهم من بنات الشوارع اغتصابا وسفاحا، ثم تضعن حملهن في الشوارع أيضا. ومن لم يكتف بهذه المصيبة فليمعن النظر في عيون السيدات كبار السن اللاتي يتسولن من أجل الدواء والغذاء، في هجير القيظ وبرد الشتاء، متوسلات عملاً هامشياً مثل بيع المناديل الورقية للحفاظ علي قدر يسير من ماء وجوههن، أو مريقات ماء الوجه جهاراً. والغني كذلك أصبح فاحشا، وكثرة الغني من مصادر غير مشروعة، إن لم تكن موغلة في الإجرام. وبالإضافة إلي سوء المنشأ، فإن كبار الأغنياء أمسوا خالين من الذوق والكياسة، فيتفاخرون بغناهم فحشا أيضا، ويعافون فعل الخير كما جُبل أغنياء مصر في الماضي، وكأن بينهم وبين الفقراء ثأرا مبيتا. انظر فقط في سياراتهم وحفلاتهم. علي العكس، هم علي استعداد لافتراس الفقراء ليكدسوا ثرواتهم، بل هم يفترسونهم فعلا، كما يفعل المحتكرون، وكل سوق في هذا البلد محتكر. ولذا فإن الإحساس بتعاسة الفقر، نسبة إلي الغني ومصادره، قد أمسي أقسي من أي وقت مضي في مصر. ومن ثم، فإن الفقر الآن تصدق عليه مقولة الإمام الحسين أنه «الموت الأكبر». فالفقير فقرا طاحنا يموت كل دقيقة يتفاخر فيها غني بفاحش ثرائه الذي تفسح له وسائل الإعلام المجال واسعا. من ناحية أخري، فالناس علي دين ملوكهم. وحيث أطلق الحكم التسلطي يد جهاز البطش «الأمن سابقا» في التعامل مع المواطنين بالعنف الزائد وغير المبرر، خاصة حينما تثار، في الأغلب الأعم زورا، مسألة «أمن الدولة» أي أمن ثلة الحكم المحتكرة للسلطة والثروة، وعليه، فلا غرابة أن تنطلق مردة العنف من عقالها لدي الفقراء عند إحساسهم بقسوة الحاجة وشدة الغبن وتصب براكين عنفها علي مواطنين آخرين يقدرون عليهم، بدلا من قاهريهم المحصنين بجهاز أمن النظام. والواقع أن حجم العنف الممارس بين المصريين أضخم كثيرا مما يصل للشرطة أو ينشر، وهناك الآن طفلات تقتل من أجل قطعة حلي لا تتعدي قيمتها جنيهات معدودات. وستستفحل الظاهرة ما بقيت دوامة الفقر الطاحن والغني الفاحش تطيح بعقلانية المصريين وطيبتهم التي كانت مشهورة. ومن ثم لا غرابة أن أصبح الفقر يفضي إلي القتل في مصر، ولكن أن تقتل أم وليدها فهذه أم الكبائر. فقد نشأنا علي، وعرف العالم كله، أن الأم المصرية، وهي تجسيد الصورة الرمزية لمصر، أمنا جميعا، حنون رءوم. منذ عام تقريباً كتبت عن مأساة «رباب» التي خسرت معركتها الأخيرة علي أرض مصر، وهي تجسيد مصري معاصر أنتجه الحكم التسلطي الراهن لمقولة الإمام علي سابقة الذكر التي تعرّف الفقر بأنه «الموت الأكبر». «رباب»، لها من اسمها نصيب، فهي امرأة مصرية حرة وأبية في شرخ الصبا (ثلاثون عاما لا أكثر)، متزوجة من مصري فقير هو الآخر، وحامل في شهورها الأخيرة، كانت تعاني رعب الولادة في الفقر، وانعدام القدرة علي الوفاء بحاجات وليدها بعدها. فأقدمت علي قتل نفسها وجنينها مرتين خلال دقائق معدودة، ونجحت في المحاولة الثانية. ابتلعت «رباب» مبيدا حشريا وعندما حاولت والدتها إسعافها وهي في سكرات الموت ازداد هلعها لمجرد التفكير في التكلفة المادية التي سيطلبها المستشفي لإسعافها قبل أن يبدأ في علاجها، فألقت بنفسها من مسكنها المرتفع لتسقط جثة هامدة محولة جنينها هو الآخر إلي جثة. قللت رباب من عدد السكان في مصر بهذه الطريقة البشعة، عل السيد الرئيس ووزيرة السكان يرضيان. «رباب» من وجهة نظري هي التجسيد المأساوي للحملة الإعلانية البذيئة التي شنها الحكم التسلطي تحللا من فشله التنموي بإدانة الإنجاب في مصر تحت عنوان «وقفة مصرية». فحيث لم تكن «رباب» قادرة علي ضمان الوفاء بحاجات وليدها قررت ألا تأتي به إلي هذه الدنيا الظالمة الفاجرة وأن تغادرها معه. هذه في الواقع قمة الاحتجاج الشعبي علي التعاسة التي يجلبها الحكم التسلطي علي عامة المصريين، معايرا إياهم بكثرة نسلهم، ومحوّلا كل شيء حتي الرعاية الصحية إلي سلعة يخضعها أفراد شلة الحكم، بقيادة مهندسهم «عز»، إلي حافز الربح السريع وللاحتكار المجرم، ولا عزاء للفقراء. فالحكم التسلطي المستقوي بالرأسمالية البربرية ينزع عن الفقراء آدميتهم. وهكذا، فإن مأساة «رباب» مثلت لي المعادل الموضوعي لإثراء أساطين السلطة والثروة في مصر فحشاً، وإفقاراً لعامة المصريين، والحكم عليهم بقلة الحيلة في بلدهم وحتي نسلهم. ولنعد إلي الحالة الأحدث التي أقضت مضجعي شخصيا طويلا، ويتعين أن تقض مضاجع جميع المصريين، خاصة أولئك المدعين المسئولية عن مكافحة الفقر ورعاية المرأة والطفل في مصر. وأورد للقارئ نص تقرير واحدة من الصحف العربية عن المأساة التي تفطر القلب، لمن بقي لديه إحساس، نقلا عن «المصري اليوم». قبل عشر سنوات، قادت الأقدار شابة مصرية حاصلة علي الثانوية العامة إلي الزواج من محام، وقبل أن تستقر بهما الحياة الزوجية طلقها وهي حامل في شهرها الثاني، الطلاق جاء بعد ثلاثة أشهر فقط من الزواج، لتجد الأم «سهام» نفسها وحيدة في مواجهة الحياة القاسية، إلا من إعانة شقيقها الذي يعمل في منصب بإحدي الوزارات. وتروي صحيفة «المصري اليوم» قصة الأم الوحيدة، فتقول إن تسع سنوات مرت عليها وهي تبحث عن عمل من محافظة إلي أخري، وسط ظروف اجتماعية بالغة الصعوبة، لا يساعدها سوي إعانة الخمسمائة جنيه (88 دولاراً) التي يقدمها لها شقيقها ولا تكفي قوت أيام بعد سداد إيجار السكن منها. وبعد أن أخرجت ابنها من التعليم لعدم قدرتها علي نفقاته، واستحكم بها اليأس والإحباط، قررت التخلص من حياتها، لكن من سيتولي رعاية ابنها؟. وجهت هذا السؤال لنفسها، فعدلت الفكرة عند الفجر من إحدي الليالي البائسة، أحضرت سهام «فوطة» وكتمت أنفاس ابنها إلا أنه أخذ يتوسل إليها بنظراته المتألمة، ولم تنجح هذه الوسيلة في التخلص من حياته، فبللت الفوطة، وعادت لتكتم أنفاس فلذة كبدها ليفارق الحياة، وجاء الدور علي تنفيذ الجزء الثاني من الخطة، تجرعت الأم «سم فئران» لتتخلص من حياتها وتلحق بصغيرها، غير أنها أخذت تتقيأ، ولم تمت، وعاودت المحاولة في اليوم التالي بقطع شرايين يديها وأخذت تنزف ست ساعات، توقف النزيف بعدها لتجد نفسها ما زالت علي قيد الحياة. ومع مطلع اليوم الثالث، بدأت جثة ابنها في التعفن، ولم تجد الأم أمامها إلا الإبلاغ عن الجريمة، واعترفت في أقوالها بارتكابها وطالبت بإعدامها ودفنها إلي جوار صغيرها، قائلة: «اعدموني .. عايزة أستريح من الدنيا». وأثناء معاينة النيابة لمكان الحادث بمدينة السلام، عثرت علي خطاب إلي جوار جثة الابن بخط الأم تعترف فيه بارتكاب الجريمتين، قبل أن تصبح جريمة واحدة. وهكذا أصبحت الأم المصرية مشهورة بقتل فلذات أكبادها، بفضل تحالف الرأسمالية المنفلتة والحكم التسلطي الذي جر علي المصريين أشد ويلات الفقر والإملاق. ولكن نرجو أن يلاحظ القارئ أن السيدة «سهام» لم تك بغيا، ولم تسرق أو تبيع شرفها، ولا خانت عهدا أو فرطت في أمانة مثل كبار المتنفذين والمترفين في مصر. فقد كافحت هذه المرأة النبيلة لمدة تسع سنوات كاملة لتجد عملا شريفا تسد به رمقها وحاجات ابنها الذي لم تستطع أن تبقيه في المدرسة، ولكنها لم توفق. تصوروا: أربعة آلاف يوم، وربما خمسة آلاف سؤال عن عمل، باءت جميعها بالفشل وعادت سهام بعدها إلي بيتها الفقير كل مرة تتجرع الخيبة، وتقاوم الجوع وتتمزق لجوع ابنها، وتلوك عذابها وتراقب عذاب ابنها الصغير ربما ملايين المرات، حتي أقدمت علي الفعلة الشنعاء. إن «سهام» ورباب» تشخيص لمصر كلها في حالتين من الشقاء الإنساني الكاسح لجميع القيم النبيلة، قد حول تحالف الرأسمالية المنفلتة والحكم التسلطي الذي جر علي المصريين أشد ويلات الفقر والإملاق مصرنا من صورة الأم الرءوم إلي الأم قاتلة وليدها. من المسئول عن كل هذا العذاب الذي يفوق احتمال أي كائن بشري ويدفعه للجنون أو الإجرام؟ أنا لا ألوم «سهام» أو «رباب» أو أي مصرية أوقعها حظها العاثر في أدني درك من الفقر وقلة الحيلة في مصر.. أنا ألوم كبار المسئولين في شلة احتكار السلطة والثروة في مصر، خاصة المتبجحين بنجاح الإصلاح الاقتصادي، وبقلة البطالة، وبأن الحكم التسلطي الراهن يولي أولوية للضعفاء في المجتمع المصري. وألوم المسئولات عن رعاية الأمومة والطفولة في مصر. وألوم المترفين من رجال الأعمال الفاسدين الذين لا يرعون الحالات الإنسانية أو حرمة وطن أو دين ..عندما قتلت رباب نفسها وجنينها كان السيد أحمد عز ينفق قرابة المليار جنيه علي حملة إعلانية كاذبة لتجميل صورته السياسية القبيحة، ووقت قتلت سهام طفلها كان يتردد أنه يقود سيارة صُنعت له خصيصا يزيد ثمنها علي الخمسين مليون جنيه». وألوم منظمات المجتمع المدني التي تدافع عن ضحايا دارفور، وعن حرية المرأة الشكلية، ما دامت حكومات الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربي تتيح التمويل لذلك، وتنسي شقاء المصريين، خاصة المصريات المطحونات. هؤلاء هم من يجب أن يقدموا للمحاكمة وليست «سهام»، وسيحكم عليهم التاريخ بكل تأكيد. فقط أتمني أن تكون «رباب» و«سهام» قد دعتا علي ظالميهما، وأبواب السماء مفتوحة لهما، «اللهم خذهم جميعا أخذ عزيز مقتدر».