الكلام الذى يسكت عن الحقيقة كاملة.. فعل ناقص. والأفعال الناقصة آفة بعض السياسيين هنا وهناك. جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأمريكى، دخل دائرة أصحاب الأفعال الناقصة بتصريح بدا كما لو أنه يتحدث عن المهم، ويطبق فمه عن الأهم. تحدث بايدن عن «داعش» وهاجمه.. أخيرًا. غير أن السؤال بقى معلقا فى رقبته: لماذا «داعش» وحده؟ وماذا عن التنظيمات المتشددة الأخرى؟ وإذا كان «داعش» قد تورط فى إرهاب شعوب ودول فى المنطقة، فلماذا، إذن، لم يتحدث بايدن عن جماعة «الإخوان المسلمين» وحلفائها، وأعمال العنف والإرهاب التى أدينوا بارتكابها، خصوصا فى الفترة التى تلت سقوط نظام الرئيس محمد مرسى فى مصر؟ تحمل تصريحات نائب الرئيس الأمريكى كثيرا مما لا يثير العجب فحسب، بل الاستهجان والاستنكار. الحكاية أكبر من انتقاد جرائم «داعش»، والصمت عن ممارسات «الإخوان». إنها حكاية المعايير المزدوجة التى تصدم أصحابها فى لحظة عمياء مثل قطار مندفع. بايدن سقط فى فخ الفعل الناقص.. هاجم «داعش» وسكت عن ممارسات الجماعة الأم والحاضنة الأولى للعنف الدينى.. الإخوان! خطر غير جوهرى! حسنًَا فعل نائب الرئيس الأمريكى جو بايدن، حين قال إن الولاياتالمتحدة وشركاءها فى الائتلاف يواجهون «معركة طويلة» لوقف تقدم متشددى تنظيم «داعش» فى سوريا والعراق. لكن بايدن دافع عن قرار الولاياتالمتحدة الانتظار حتى شهر سبتمبر الماضى، لبدء الضربات الجوية ضد أهداف للجماعة المتشددة فى سوريا، التى تشهد بالفعل حربًا دموية أودت بحياة 190 ألف شخص. وقال إن الولاياتالمتحدة احتاجت إلى الانتظار حتى تصبح دول مثل السعودية وقطر على استعداد لتقديم دعم. وأضاف قائلا فى كلمة أمام باحثين بجامعة «هارفارد» فى كامبردج بولاية ماساتشوستس: «الآن لدينا ائتلاف، لكن مع هذا فإنها ستكون معركة طويلة.. معركة طويلة جدًّا». وقال بايدن: «لكن لا يمكن أن تكون معركتنا وحدنا حتى لو أردنا ذلك. هذه لا يمكن أن تتحول إلى حرب برية أمريكية ضد دولة عربية أخرى فى الشرق الأوسط». وأشار نائب الرئيس الأمريكى إلى قرار البرلمان التركى تفويض الحكومة القيام بعمل عسكرى ضد متشددى «داعش»، الذين تعزز وجودهم عند حدود تركيا وأيضا السماح لقوات أجنبية بإطلاق عمليات من تركيا كدليل على نجاح الائتلاف فى حشد الدعم. وقال إن الولاياتالمتحدة انتظرت قبل التحرك بسبب صعوبة تقرير ما إذا كان يمكنها دعم أى عنصر من الفئات المسلحة التى تقاتل فى المنطقة. وأضاف قائلاً: «إننا ندرب قوى معتدلة لكننا ندقق جدا فى الاختيار للتأكد من انتماءاتها». وقال إن بضعة آلاف من المقاتلين جرى تدريبهم، مضيفا أن العدد على وجه التحديد سرى، لكنه أكد أن الولاياتالمتحدة ليس لديها خطط لإرسال قوات مقاتلة إلى حرب برية ضد متشددى «داعش». ومضى قائلاً: «إضعافهم لا يعتمد على النشر المتواصل لمئات الآلاف من الجنود على الأرض.. هذه الحملة ضد التطرف العنيف وجدت قبل مجىء إدارتنا وستبقى بعد ذهاب إدارتنا». وقال بايدن أيضا إن متشددى «داعش» لا يشكلون خطرًا جوهريا يذكر على الولاياتالمتحدة، وأضاف: «الولاياتالمتحدة اليوم تواجه تهديدات تتطلب اليقظة، لكننا لا نواجه تهديدًا وجوديا لأسلوب حياتنا أو أمننا». زلة لسان بايدن! فور إطلاق جو بايدن تصريحاته المربكة، وجد نفسه فى مأزق منطقى للغاية. الخطأ لا يلقى إلا رفضا ولهجة شديدة من الدول والقوى السياسية المختلفة. نعلم تمام العلم أن ما أطلق عليه الإعلام الأمريكى وصف «زلات لسان» بايدن، ليس جديدًا، خصوصا حين تصل زلات اللسان هذه إلى أخطاء فى أسماء شعوب ودول، وإلى إساءات حتى للرئيس الأمريكى نفسه، وللمنصب الذى يحتله بايدن نادما على ما يبدو، وهو الذى أخفق مرتين فى الوصول إلى سدة الرئاسة.. مع علمنا التام بذلك، فإن الرجل يبقى نائب الرئيس الأمريكى، والغضب مما أدلى به من اتهامات، ينطلق من حساسية منصبه، أكثر مما من شخصه. ولعلّ مسارعة بايدن نفسه إلى التراجع عن كلامه، فى معرض اعتذاره من الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، حين قال إن «تركيا والدول الحليفة لأمريكا» ليست ضالعة فى الإرهاب، وذلك بعد أن انهالت عليه الانتقادات داخل أمريكا، قبل خارجها، يعبّر عن حجم المأزق الذى أوقع بايدن إدارة أوباما فيه. وإذا كان معروفا عن بايدن أنه رجل لا يجيد المزاح ولا يحسن التقدير السياسى بالفعل، فإنه أوقع نفسه هذه المرة فى فخ الهجوم على «داعش» واتهام بعض الدول القريبة والبعيدة خطأ بتمويله، قبل أن يجد نفسه مضطرًا إلى تقديم اعتذارات رسمية. جاءت الاعتذارات.. وغابت الصورة الكاملة التى تشير إلى صمت أمريكى على الجماعة الأم لمعظم التنظيمات المتطرفة فى المنطقة: جماعة «الإخوان المسلمين». إنه التناقض الذى يكبر مثل كرة الثلج ليتجاوز مسألة زلات لسان بايدن التى لا تنتهى. شبكة واشنطن العلاقة بين واشنطن وجماعة الإخوان أقدم مما يتصور كثيرون. فى إحدى صفحات تلك العلاقة نقرأ عن القيادى الإخوانى سعيد رمضان، المتزوج من وفاء، ابنة حسن البنا. ويورد الكاتب الأمريكى روبرت دريفوس كثيرًا من الشهادات والأقوال الموثقة عن علاقة سعيد رمضان بالأجهزة الأوروبية والأمريكية والباكستانية، كما امتد نشاطه إلى فلسطين. ويذكر إيان جونسون أن سعيد رمضان كان إحدى حلقات الاتصال بين الولاياتالمتحدة وأجهزة مخابراتها والجماعة؛ إذ دُعى إلى واشنطن كمندوب لجماعة الإخوان المسلمين -كما يشير نص الدعوة- وتم ترتيب لقاء له مع الرئيس دوايت أيزنهاور فى البيت الأبيض فى 23 سبتمبر 1953. ومع خروج رمضان من مصر واستقراره فى أوروبا، جرى استخدامه وجماعته كأداة لمواجهة عبد الناصر فى مصر ومواجهة الشيوعية فى العالم الإسلامى وفقا للمخططات الغربية. وأنشأ رمضان شبكة الإخوان المسلمين فى أوروبا من خلال مشروع بناء مسجد (مركز إسلامى) فى ميونخ بألمانيا، الذى أصبح المقر الرئيسى للإخوان فى ألمانيا وأوروبا. ويشير الكاتب إيان جونسون إلى أن «الولاياتالمتحدة استخدمت تأثيرها المالى والسياسى لمساعدة رجل الجماعة فى أوروبا». وتدعمت علاقة مسجد ميونخ بالإخوان عندما تولى مهدى عاكف -مرشد الإخوان فى ما بعد- إمامة المسجد فى الفترة من 1984 وحتى 1987. وفى شهادته أمام لجنة الشؤون الحكومية فى مجلس الشيوخ الأمريكى بتاريخ 31 يوليو 2003، قال جوناثان واينر، نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكى سابقا لشؤون إنفاذ القانون، إن جماعة الإخوان المسلمين لعبت دورًا محوريا فى «توفير القدرات الفكرية والفنية على حد سواء لدعم تمويل الإرهاب على أساس عالمى.. نشر الإخوان كلا من أيديولوجيا التشدد الإسلامى العام، وأصبحوا العمود الفقرى الذى تقوم عليه عمليات التمويل للمتشددين الإسلاميين، وأخذوا الأموال المتولدة إلى حد كبير من نخبٍ ثرية فى دول الخليج، وتولوا توزيعها على تعليم الإرهاب، والتجنيد، والعمليات المنتشرة على نطاق واسع فى جميع أنحاء العالم، لا سيما فى المناطق التى يأمل فيها المسلمون إطاحة الحكومات غير المسلمة أو العلمانية». ويتحدث جون جواندولو، وهو عميل سابق فى مكافحة الإرهاب بمكتب التحقيقات الفيدرالى تخصص فى متابعة تنظيم الإخوان داخل الولاياتالمتحدة، عن شركات ومؤسسات تعمل تحت مظلة الإخوان المسلمين، أو خرجت من تحت عباءتها فى أمريكا الشمالية، مثل رابطة الطلاب المسلمين «MSA»، التى أسسها الإخوان ما بين عامى 1962 و1963، وتعد من أهم المؤسسات التى نجحت فى اختراق الجامعات الأمريكية، وخرج منها نحو 600 رابطة طلابية، وخلال ثمانينيات القرن العشرين أنشئ عديد من هذه المؤسسات ليصل كما يرى المحلل إلى أكثر من 2000 كيان تابع للإخوان المسلمين. التزامن مع الوجه الخشن للجماعة فى ممارسات الداخل، مارَس إبراهيم منير، الأمين العام للتنظيم الدولى للإخوان، سياسة الوجه الناعم للإخوان فى الخارج؛ إذ يقول فى تصريحات صحفية: «لدينا اتصالات مع الإدارة الأمريكية والكونجرس وعدد من أعضاء مجلس اللوردات البريطانى، ونتواصل مع عدد من الرؤساء والزعماء منهم رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان؛ لدعم إخوان مصر فى محنتهم». سر «الفرقة 95» عقب ثورة 25 يناير 2011، أثيرت تساؤلات عن حقيقة «الفرقة 95». فقد تصاعدت حدة التساؤلات حول حقيقة «الميليشيات» فى أحداث قصر «الاتحادية»، وهى تساؤلات لم تخضع لتحقيق جنائى أو لجان تقصى حقائق، رغم سقوط ضحايا أمام القصر الرئاسى، صاحبتها تساؤلات أخرى عن دور الفرقة «95 إخوان» فى الأحداث الدموية لثورة يناير، ومدى تورطها فى أعمال عنف، علما بأن وزير الشباب د.أسامة ياسين، فجَّر مفاجأة باعترافه على قناة «الجزيرة» بوجود ما يسمى ب«الفرقة 95». وعقب عزل مرسى ووقوع جرائم عنف وإرهاب منسوبة إلى جماعتى «أنصار بيت المقدس»، و«أجناد مصر»، قال وزير الداخلية محمد إبراهيم: «مهما كان المسمى، سواء (أنصار بيت المقدس أو أجناد مصر)، فإن الجماعة ميليشيا إخوانية، كان يقف وراءها فى عهد حكم الإخوان، المهندس أسامة ياسين، وزير الشباب السابق، الذى كان المسؤول السرى للجماعة». وأضاف أن «المعلومات والتحريات تقول إنه جند عددًا من الشباب فى ميليشيات مسلحة، تنفذ حاليا أعمالا إرهابية». الثابت أن جماعة الإخوان اعتدت على عدد من المنشآت العامة وأقسام الشرطة ومديريات الأمن والكنائس والجامعات والمدارس ووسائل النقل العامة، كالحافلات ومحطات مترو الأنفاق، فى الفترة التى تلت ثورة 30 يونيو. لم تنتحر الجماعة فحسب، وإنما حاولت نحر الوطن أيضا. لهذا وغيره، كانت الجماعة هى الحاضنة الأولى للعنف، وما الجماعات المتحالفة معها -على اختلاف أسمائها وأيديولوجياتها- إلا ذراعها الباطشة. ولكننا جميعا نتفق على أن الخطر الذى تمثله حقيقى». الجماعة اعتدت على المنشآت العامة وأقسام الشرطة والكنائس والجامعات والمدارس ووسائل النقل العامة فى الفترة التى تلت ثورة 30 يونيو الوجه القبيح للجماعة إن تجربة الإخوان فى الصراع السياسى وعلى السلطة القائمة فى مصر، على اختلاف هوياتها وتوجهاتها، تمتد إلى أكثر من 80 عاما، وهى تجربة غنية بالمواجهات الدموية، ومن ضمنها اغتيالات لشخصيات سياسية واعتقالات واسعة شملت أجيالاً، والصفقات السياسية، كما بتجارب العمل السرى، وقد تكررت غير مرة. الثابت أنه لجماعة الإخوان المسلمين تاريخ طويل تشير وقائعه وأحداثه إلى أن هذه الجماعة لم تتمكن أبدًا من التعايش مع أى من أنظمة الحُكم التى تعاقبت على مصر، وأنها مارست سياسات أدت إلى التصادم معها جميعا. وللإخوان المسلمين تاريخٌ حافلٌ فى كتاب سفك الدم. ففى العاشرة من صباح يوم الثلاثاء الموافق 28 ديسمبر 1948 قُتِلَ محمود فهمى النقراشى باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك، داخل فناء وزارة الداخلية، على يد عبد المجيد أحمد حسن (21 عاما) عضو جماعة الإخوان المسلمين، حيث ارتدى زى ملازم أول فى الشرطة ودخل مبنى الوزارة منتحلاً هذه الصفة ووقف بجوار المصعد. وعندما دخل النقراشى باشا واتجه مع حراسه إلى المصعد، أخرج الضابط المزيف سلاحه وأطلق عليه ست رصاصات فأرداه قتيلاً. والحقيقة أن عدة حوادث عنف واغتيال فى تلك الفترة ارتبطت بعناصر من الإخوان المسلمين. ففى 22 مارس عام 1948، اغتال اثنان من الإخوان المسلمين المستشار أحمد بك الخازندار؛ لأنه أصدر حُكما اعتبرته جماعة الإخوان قاسيا بحق عضو فيها. وإليكم توظيف الدين فى حادثة اغتيال القاضى أحمد الخازندار، نقلا عن د. محمود عساف مستشار مجلس إدارة النِّظام الخاص للإخوان: «دخل الأستاذ (البنا) وهو متجهم، وجلس غاضبا ثم سأل عبد الرحمن السِّندى (المشرف على النظام الخاص) قائلاً: أليس عندك تعليمات بأن لا تفعل شيئا إلا بالإذن الصَّريح منى؟ قال: بلى. قال: كيف تسنى لك أن تفعل هذه الفعلة بغير إذن وبغير عرض على مجلس إدارة النظام؟ فقال عبد الرحمن: لقد طلبتُ الإذن وصرحتم فضيلتكم لذلك! قال الإمام: كيف هل أُصرح لكم وأنا لا أدرى! قال عبد الرحمن: لقد كتبتُ إلى فضيلتكم أقول: ما رأيكم دام فضلكم فى حاكم (قاض) يحكم بغير ما أنزل الله، ويوقع الأذى بالمسلمين ويُمالئ الكُفار والمشركين والمجرمين؟ فقلتم فضيلتكم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ (المائدة: 33). فاعتبرتُ هذا إذنا» . هذا ما أكده أيضا مستشار النظام الخاص آنذاك د. عبد العزيز كامل، الذى أورد تفاصيل أكثر فى مذكراته. وإذ حاول د.عساف تأكيد براءة شيخه، فإن مرتكب الجريمة هو مؤسس «النظام الخاص» عبد الرحمن السِّندى (توفى عام 1962)، وهو اليد اليمنى للشيخ، الذى بدلاً مِن أن يُسلم السِّندى ويُطبق عليه القصاص، فإننا نراه يبرر له الجريمة. قال البنا للسِّندى: «إن كان قتلك للخازندار قد تم بحسن نية فإن علينا الدِّية». أليس مسؤولية مَن يُقتل برصاص النظام الخاص هى مسؤولية منشئه الإمام البنا؟! النظام الذى بدأ باسم «أنصار الله»، ثم الخاص ثم السِّرى، وعند البيعة يتم القسم على «المصحف والمسدس» وفى غرفة معتمة، وبعدها يقول له من تلقى البيعة «فإن أنت خنت العهد أو أفشيت السر يخلى سبيل الجماعة منك ويكون مأواك جهنم»، فماذا يُرتجى مِن أجيال تربت وتدربت فى العتمة، وتُهدد بالقتل إن هى تركت الجماعة؟!