مع انتهاء مهلة تنظيم «داعش» للمسيحيين فى مدينة الموصل، بدت المدينة خالية منهم تماما، فقد غادرت غالبية العائلات المسيحية المدينة فى اتجاه الشمال، فى ما عدا خمس عائلات لم تتمكن من المغادرة نظرًا إلى وجود كبار سن ومعاقين ومرضى من بين أبنائها، وقد خيرهم أعضاء «داعش» ما بين الإسلام والسيف، فأشهروا إسلامهم. بادرت قوات «البشمرجة» الكردية بتأمين مسيرات العائلات المسيحية الفارة من الموصل، ووفرت لها ملاذات آمنة، وهى خطوة لقيت تقديرا كبيرا من قبل الرأى العام العالمى والمؤسسات العاملة فى مجال حقوق الإنسان، وكانت رسالة من أكراد العراق بأنهم يقبلون بالتنوع، والتعدد والاختلاف، وأنهم يعملون على حماية الأقليات المختلفة فى العراق، ومن ثم قدموا صورة إيجابية للعالم. فى المقابل كشفت العائلات المغادرة عن تعاون قطاعات من أهل الموصل مع «داعش» فى ملاحقة الأسر المسيحية ومطاردتها والاستيلاء على ممتلكاتها، وهى ظاهرة تكررت فى سوريا أيضا، الأمر الذى يثير تساؤلات حول حقيقة ما جرى فى هذه المجتمعات، ولماذا يقدم بعض الناس على الانتقام من شركاء وطن عاشوا معهم عقودًا وعاش الآباء والأجداد قرونا عديدة معا؟ هل القضية فى تراجع ثقافة المواطنة، أم سيادة منهج متشدد منغلق يرى فى الآخر الدينى، الطائفى أو العرقى، شرًّا مطلقا وفى التخلص منه مكسبا للدين، الطائفة والعرق؟ المؤكد أن هناك منهجا متشددا يسود عالمنا العربى، انتشر دعاة متشددون يرفضون الآخر، يجرمون التعدد والتنوع، يفتون بجواز قتل المختلف، والاستيلاء على ممتلكاته. ظهر هذا الفكر فى دول لم تعرف التنوع والتعدد والاختلاف، لم تنمو فيها ثقافة مواطنة ولا علاقة لها بالقيم الإنسانية الخاصة بالتسامح وقبول التعدد والاختلاف، ولم تكن هناك مشكلة كبيرة فى ذلك فهذه المجتمعات تتسم بالأحادية الدينية، ولذلك ألقى التشدد بظلاله على أسس طائفية، فكان التطاحن الطائفى، وكان التكفير للمختلف مذهبيا. سرعان ما انتقل الفكر المتشدد المنغلق إلى مجتمعات كانت مفتوحة وتتسم بالتنوع والتعدد والاختلاف، كان من بين مواطنيها من يعتنق معتقدات خارج سياق الديانات الإبراهيمية، كانت هناك الصابئة والأزيدية وغيرهما، وكان الجميع يعيش حياة مشتركة، وكان الزواج المختلط ظاهرة منتشرة فى مثل تلك المجتمعات كالمجتمع العراقى وأيضا السورى. وفد التشدد إلى هذه المجتمعات اعتبارًا من منتصف السبعينيات مع ارتفاع أسعار البترول وهجرة ملايين البشر من المجتعات العربية المفتوحة صوب بلدان النفط، وتحديدًا المملكة العربية السعودية، فكان أن اعتنقوا الفكر المتشدد وتبنوا أفكارًا منغلقة، فظهر التشدد فى هذه المجتمعات التى عبرت عن نفسها فى اتباع سلوكيات متشددة منغلقة حتى على المستوى الشكلى المرتبط بالزى والملبس. جاء الاحتلال الأمريكى البريطانى للعراق عام 2003 ليفجر الصراعات الدينية والطائفية فى العراق، والتى امتدت لتطول سوريا ولبنان وغيرهما من دول الجوار، أدى الاحتلال الأمريكى البريطانى للعراق إلى نسف نموذج عيش المشترك هناك، وانتشرت الجماعات المتشددة، وكان أصحاب الأديان والعقائد الأخرى هم أولى ضحايا هذه الجماعات، وفى مرحلة تالية ظهر الصراع الطائفى الذى دمر ما تبقى من نموذج التعايش فى دولة كالعراقوسوريا، كما زحف هذا النموذج الدموى العنيف على دولة مثل مصر، وكانت فى طريقها إلى السقوط على طريقة العراقية تحت حكم الجماعة، ولكن شعب مصر ثار دفاعًا عن نموذجه فى العيش المشترك وتولى جيش مصر إنفاذ إرادة الشعب فى الثلاثين من يونيو. فكك الاحتلال الأمريكى البريطانى الجيش والشرطة فى العراق فكان الانهيار الشامل، دفعوا بالمتطرفين إلى سوريا فكانت الحرب الطاحنة، ولا يزال العراق يدفع ثمن الاحتلال وسياساته، والتى أعتقد أنها قضت على نموذجه فى العيش المشترك ووضعته على أول طريق التقسيم النهائى.