لا شيء يجرح ويؤلم ويفقدك الأمل أكثر من أن تتآلف مع الظلم وتتعاطف مع الذل وتقبل يد سارقك وتقنع نفسك أو يقنعك الآخرون بأنه ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن وبأنك دون أن تعمل عقلك أو تندهش وتسأل لماذا؟ ليه إشمعني نحن أحسن من غيرنا، غرب، شرق، أمريكا ما أمريكا إحنا أحسن؟! أفرح وصفق وهلل وغني للصبح لعلك تشبع وتنام قرير العين مقتنعًا بما لا يقنع! هكذا شعرت وأنا أشاهد فيلم (عسل إسود) لنجمي المفضل أحمد حلمي، وقد أصبح كغيره من كبار النجوم في بلادنا، لا يمكن أن تمر لقطة أو كادر أو ثانية يظهر فيها كومبارسدون أن يظهر فيها، الشاب المصري العائد إلي مصر بعد عشرين سنة قضاها في أمريكا يعود بشوق ولهفة ليزور الأهل والأصدقاء والبيت والحي الذي عاش وتربي فيه، أخرج جواز سفره المصري وترك الأمريكي كي ينعم بكونه مواطنًا مصريًا علي أرض مصر ليكتشف أنه ارتكب خطأ فادحا بتركه الجواز الأمريكي وبأنه قد ترك المصباح السحري الذي يفتح له كل الأبواب الموصدة ويذلل أمامه جميع العقبات المستعصية ويحظي باحترام الكبير والصغير في بلد أرخص ما فيه أهله ،حيث يلفظ الوطن المواطن ويتقيأه ويجعل منه حائطه المائل يمارس عليه كل قذاراته ويسرق منه كل شيء حتي حياته لو استطاع، رحلة عذاب قطعها مصري وهو في طريقه للحي والبيت الذي تربي فيه، فمن اللحظة الأولي التي تطأ فيها قدماه أرض المطار يُستقبل بسلسلة من الممارسات التي تعكس فسادا ونصبا وبهدلة ومهانة تجبره أن يسرع في طلب جوازه الأمريكي ليتخلص من جواز سفره المصري بنبلة من شرفة الفندق! ليسترد حيثيته ويطالب بحقوقه وحقوق الآخرين بثقة افتقدها وهو يحمل هويته الأصلية، يستقر به المقام في بيت صديقه وجاره القديم الذي يفاجأ به عاطلا عن العمل! يتقاسم معه حجرته الفقيرة الضيقة ليصبح عضوا جديدا في أسرة صديقه السعيدة رغم ما تعانيه من فقر وبطالة ناهيك عن أخيه وزوجته التي لا يجد مكانا كي يختلي بها! حياة تمشي هادئة بقوة الدفع الذاتي وبفعل حالة التكافل الاجتماعي التي تسود بين الجيران ،وتدهشه مقدرتهم علي تسيير حياتهم بغزلها برجل حمار كما يقول المثل!! ينتهي الفيلم بأن يقرر البطل أن يعود لأرض الوطن، أضيئت أنوار قاعة العرض، ويلفت نظري بعض من الجمهور يصفق، تضاعفت دهشتي وأنا أفكر لماذا يصفقون؟، وما السر الذي جعل البطل يعود من أجله؟أهو منطق العجزة حين يبحثون عما يجمل حياتهم المرة ولوبوهم يبرر هذا العجز وهذه السلبية وهذا التهاون الفاضح إلي حد يقلب الحقائق فتصبح السلبية طيبة والفساد جدعنة وشراء الذمم مرجلة والبعد عن مواجهة المشاكل عين العقل؟ بالتأكيد برغم كل شيء فإن مصر مازال لديها من الأسباب والمقومات ما يحفز من تغرب عنها أن يعود إليها، أسباب ومقومات بالتأكيد ليس من بينها تلك النماذج المهزومة غير القادرة علي الفعل أو رد الفعل! كتلك التي قدمها الفيلم ، هناك آلاف النماذج المشرفة التي أفرزها الحراك الجماهيري الذي أحيا فينا الآمال في أن تتعافي مصرنا المأزومة، ومنهم علي سبيل المثال الخبير الاقتصادي بصحيفة «الأهرام» أحمد السيد النجار الذي قرر وبمجهود مضن أن يكشف لنا فساد الإدارة في أكثر من جهة ويعكف بجد وبدأب علي تحليل الوضع الاقتصادي ويعلن علي الملأ وبالأرقام حقائق مذهلة عما تم إهداره من مال عام، فعل ذلك من أجل هذا البلد وفقط وليس لصالح طرف آخر، فعلها بشجاعة وتصدي للهجوم الضاري الذي تعرض له وتحمل عواقبه، كذلك المهندس الجسور يحيي حسين عبد الهادي الذي كشف مهزلة صفقة بيع عمر أفندي ولولا تصديه لها لكانت قد مرت مرور الكرام مثلما حدث مع غيرها من صفقات لم يكشف النقاب عنها لأنها لم تجد من يتصدي لكشف حقائقها والمستشارة المحترمة نهي الزيني التي سجلت اعتراضها علي نتيجة فوز أحد أعضاء مجلس الشعب المعروفين بشجاعة أربكت الحكومة وانهالت عليها سهام الهجوم والتطاول من كل جانب! آلاف من الشخصيات النابهة والمتميزة التي تملك ضميرا مستيقظا ونفسا عالية ترفض أن تنحني للتيار ولا تضعف أمام احتياجاتها ومصالحها الشخصية، شباب رائع تعرض للضرب والإهانة في سجون حكومة الطوارئ وقرر بعد خروجه أن يكمل مسيرته رغم ما يتعرضون له من مشاكل مضاعفة وضغوط هائلة بحكم صغر أعمارهم، هذه هي مصر التي تستحق أن نعود إليها ونعيش فيها ونسعي ونشقي للنهوض بها وليست مصر التي تستعذب الظلم وتغض الطرف عن الفساد وتعتمد الخوف وسيلة تسلم بها من شر الحكومة وأذيتها، لا شيء يسعد أسرة أبناؤها يعانون البطالة والفقر غير قادرين علي تكوين أسرة، ناهيك عن الأحلام الضائعة والآمال التي جفت، منطق أعوج وسخيف آن له أن ينتهي.