لدي هواجس كثيرة بشأن حيادية وسائل الإعلام بصفة عامة والدولية منها بصفة خاصة، ونظرا لأن مؤسسة BBC تقع في بؤرة اهتمامي فقد أثار انتباهي طبيعة الأجندة التي تحكم سياستها التحريرية حيث إن أولوياتها لا يمكن القول بأنها تمثل حقيقة أولويات المواطن العربي أو لنقل أغلبية المواطنين العرب، فمقارنة مضمون برامجهم باهتمامات أغلبية المواطنين العرب تظهر ذلك بوضوح، فالمواطن العربي يدميه الفقر والمرض والبطالة والأمية نتيجة الحكم الديكتاتوري المستبد وما نتج عنه من فساد مالي وإداري ومحسوبية في كل المجالات وعلي كل المستويات، فأين ذلك من برامج ال BBC العربية؟ وحتي علي مستوي اختيار ضيوف البرامج نجد أن ال BBC لا تختار ضيوفها بما يمثل حقيقة الوزن النسبي لمختلف القوي السياسية والاجتماعية في الواقع العربي، بل إنها تختار الضيوف وفقا لأجندتها الخاصة ووفقا للرسالة الإعلامية التي تريد أن تروج لها في وطننا العربي، فنجد برنامجا يناقش المستقبل السياسي لمصر ليس بين ضيوفه شخص واحد من التيار الإسلامي في الوقت الذي نجد أن لغة الواقع تقول إن أكبر حركة سياسية معارضة في مصر هي التيار الإسلامي (الإخوان المسلمون)، وأن أكبر حركة اجتماعية في مصر هي الحركة الإسلامية (الإخوان والسلفيون معا)، فهذه الصورة تشير لحقيقة وأهداف ال BBC كنموذج من نماذج الإعلام الدولي، فهي لا تقدم خدمة إعلامية موضوعية ومحايدة عن الواقع العربي بكل أبعاده، لكنها تسعي لترسيخ واقع معين لا يوجد إلا في مخيلة من يوجهونها ويمسكون بالخيوط التي تحركها هناك في وزارة الخارجية البريطانية، مثلهم في ذلك مثل الذين ينعتون جماعة الإخوان المسلمين بالجماعة المحظورة رغم وجودها العلني ليس في مجلس الشعب فقط بل في كل جامعة ونقابة وقرية. و تجددت هواجسي هذه كلها في الفترة الأخيرة عندما شاهدت حلقة في تليفزيون ال BBC من برنامج عن الشذوذ الجنسي؛ حيث إن البرنامج استضاف ستة ضيوف كلهم يؤيدون المثلية الجنسية عدا واحد هو محمد العوضي، وهنا يلاحظ أن البرنامج يعطي بذلك مساحات غير متساوية لطرفي القضية، بنسبة 5 :1 لصالح مؤيدي المثلية، ومن ناحية أخري فالعوضي رغم شهرته في الكويت فإنه لم يجد الكلام للإعلام ولم يع أن المخصص له دقائق محدودة لعرض رأيه بوضوح وبحجج قوية لأنه ليس في مسجد يتكلم فيه ما يشاء من وقت. ولا يمكن الاحتجاج بأن هذه مشكلته هو لأن هذه المشكلة أثرت في مصداقية وحيادية البرنامج لأن البرنامج أظهر بذلك أن الاتجاه الإسلامي ليس لديه ما يقوله في هذه القضية أو حتي إنه لا يحرمها تحريما جازما وهذا بخلاف الحقيقة والواقع. وهذه ملاحظة يمكن لأي مراقب محايد أن يلمسها بسهولة في كل برامج ال BBC وهي أنهم عندما يتعرضون لقضية تستلزم استضافة شخص يعرض وجهة النظر الإسلامية فإنهم يستضيفون أشخاصا لا يجيدون التحدث لوسائل الإعلام حتي لو اختاروا شخصا ذا علم شرعي نسبيا فإنهم يختارونه ممن لا يجيدون التحدث في الإعلام ولا يجيدون النقاش بل تقتصر مهارتهم علي الخطابة في مسجد أو محاضرة، ولا عبرة بما شذ عن ذلك لأنه لا عبرة بالنادر. وهذه الملاحظة مرتبطة بأن برامج ال BBC غير منفتحة علي الواقع الإسلامي في الدول العربية، فهي نادرا ما تستضيف رموز الحركة الإسلامية المتخصصين في القضايا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو النفسية في برامجها بل هي تتعرض لهذه القضايا عبر العلمانيين والقوميين واليساريين متجاهلة حقيقة أن الإسلاميين هم كثرة كثيرة في كل المجالات عدا مجال واحد هو مجال السلطة ومجال المناصب التي تتحكم فيها السلطة. أما مسألة ترتيب الأوليات أو الأجندة التي تتحكم في برامج ال BBC فهي أيضا واضحة في هذا البرنامج كنموذج لأجندة ال BBC العامة في كل برامجها، فأي الفريقين أحق بدراسة حالتهم والدفاع عن حقوقهم ومتابعة أخبارهم: ضحايا القمع السياسي والفقر والمرض والأمية الذين يزيد عددهم في العالم العربي علي مائة مليون أم الشاذون جنسيا الذين ينحصر عددهم في بضعة ألوف؟ ثم أين ال BBC من متابعة ضحايا قوانين الطوارئ والاعتقال السياسي دون محاكمة لعشرات السنين والتعذيب في السجون؟ إن مثل هذه المؤسسات لا تمثل همومنا العربية بل تمثل هموم قوم آخرين هناك في قصور الحكم في الغرب.