أوشك الشعر الآن في مصر أن يصل إلي طريق مسدود، فبعد أن كان الشعر ديوان العرب ومؤرخ أحداثهم وحامل همومهم ومشاكلهم البسيطة، وصل به الحال إلي أن أصبح موجهاً للخاصة فقط، وأصبح الشاعر يتفنن في تطريز قصيدته بما لذ وطاب من الغموض والتراكيب المبهمة ليضفي علي نفسه صفة الشاعرية المثقفة.. لكن في خضم هذه العاصفة العنيفة يبقي صنف من الشعراء، مازال يؤمن بأن الشعر هو هذا الإحساس المتدفق بسلاسة ووضوح من قلب الشاعر إلي قلب القارئ مباشرة، ومن هؤلاء: الشاعر «سند صبحي» الذي صدر له مؤخراً ديوان «الوسعاية». و«سند صبحي» شاعر من أحشاء أرض مصر الطيبة، تظهر أصوله الريفية واضحة في قصائده من خلال تعبيراته ومصطلحاته الضاربة في أصول الريف المصري وتشبيهاته وصوره الطازجة، كما تظهر بساطته في التناول تلك البساطة التي يتميز بها عموماً شعراء الريف والصعيد عن شعراء العاصمة. يقول «سند» في قصيدته «الخبر» التي يعبر فيها عن صدمة الموت: الخبر رجّ الحيطان والسقف وبيوت الجيران لمّ المسافات البعيدة كلها صحَّي الشيوخ النايمة في أدراج الشرايط من زمان الكنَبْ قاعد بيلطُم عَ الخدود حِزَم الصّوات اتوزّعت بالعدل علي كل الحريم حتي الآهات استرزقت من كل أفواه العيال. ورغم أن ديوان «الوسعاية» هو ديوان شعر عامية، ورغم أن الشاعر منغمس إلي النخاع في جذور وأحشاء هذه الأرض، فإن هذا لم يمنعه من استخدام لغة أقرب للفصاحة.. فالشاعر هنا يستخدم لغة جزلة، لا تكاد تغوص معه في ترعته في الريف وتحت «شواشي» الأشجار مستمتعاً بلغته الريفية المحببة وخشونة يده العاملة الطيبة التي تلمحها داخل كل قصيدة حتي يمسك يدك ويصعد بك إلي أعلي درجات الجزالة والفصاحة من خلال أبيات أخري. يقول «سند» في قصيدته «وفاء»: لأ مش كده.. إنتِ إللي خلِّيتي الحنين.. سلِّم سلاحه واختفي.. وإنتِ إللي بعتَرتِي السنين.. بإديكِ فوق الأرصفة.. قلبك بقي يمارس حياته.. بقدّ سعر التكلفة! ولا يتركنا الشاعر إلا بعد أن يمهد لنا الطريق لنري «الوسعاية» التي كانت ملتقي الجميع، هذه «الوسعاية» التي تمثل لكل منا تاريخه الماضي الضائع المفقود، «الوسعاية» التي لم يهرب منها أحد سواء كانت بين البيوت في الريف أو أرض فضاء في الصعيد أو سطوح منزل في القاهرة.. يلعب الشاعر علي مشاعر الشجن التي في قلب كل منا لهذه الأيام. يقول الشاعر في قصيدته «الوسعاية» واصفاً حاله هو ومن معه وهم يلعبون العديد من الألعاب في مرح وسعادة لا يشغلهم شيء، لكن الدنيا لا تترك لهم سعادتهم: كنّا بنبني مدينة وسور نلعب فيهم شعب وريِّس وندبَّر في أمور دولتنا كانت كل حياتنا هناك بتخدّم علي كل حياتنا بس العتمة كات تفاجئنا تتسقّط من فوق دماغتنا وكاتْ تلهف خير الوسعاية. ويظهر في الديوان بوضوح مدي النضج الذي وصل إليه الشاعر في قصائده، فالقصائد في مجملها مكثفة، يضع الكلمة بحرص وحذر، يختصر المعاني العميقة في كلمات معدودة، تختلف التجربة من قصيدة إلي قصيدة، لكن يبقي نضج التناول هو العامل المشترك بين كل القصائد.. حتي في علاقته بأعز الناس إلي قلبه وهو ولده «خالد».. لم يندفع خلف تلك المشاعر المتوهجة من أب لابنه كما فعلها آخرون، ولم يملأ الأرض صراخاً ونصحاً له من خلال مئات الأبيات، وإنما فعلها ببساطة وبكلمات قليلة تشجي القلب وتدمع العين. يقول «سند» في قصيدته «خالد»: وإنت بتفرّ السنين قدّام صحابك وبتفتخِر إبقي افتكِر إني غرزت بحياتي في الخطر علشان تعدِّي فوق كتافي الطريق كان ماشي حافي من زمان كنت باستلف الأمان وأخيَّط الليل في النهار علشان يادُوب... أقدر أجيبْ لك..... كشكولين!