من أجل هذا الفيلم حطم مهرجان «كان» قواعده الراسخة علي مدي 63 عاماً وسمح قبل بداية انطلاقه فقط بثلاثة أيام بأن يضم إلي مسابقته الرسمية هذا الفيلم «طريق أيرلندا» للمخرج البريطاني الشهير «كين لوتش».. بالطبع لو أن هذا القرار أصدره مهرجان مصري لأصبح عليه طوال فعالياته أن يبرئ ساحته من شبهة التواطؤ لصالح صناع هذا الفيلم، ولكن جاءت المبررات التي أعلنتها إدارة المهرجان نابعة من الفيلم ومستندة أيضاً إلي اسم المخرج، وهكذا فتح الباب أمام «كين لوتش» ليعبر إلي المسابقة بفيلمه وسط ترقب من كل النقاد والصحفيين والإعلاميين، وجاء الفيلم إلي المهرجان متخطياً مواعيد العروض التي تم طبعها وتوزيعها علي الصحفيين وأتيح عرضه في البداية لعدد محدود جداً من النقاد الذين يحملون كارنيهات بيضاء أو حمراء بنجمة، وهذا يعني أن لديهم باعاً طويلاً بالمهرجان ويراسلون جرائد لها تأثيرها في بلادهم، وفي اليوم التالي أتيح العرض في المساء لباقي الصحفيين.. ومن حسن حظي أنني كنت مع الفريق الأول الذي لا يتجاوز 500 صحفي 10% فقط من المتابعين للمهرجان، وشاهدت الفيلم الذي يمثل من الناحية الإنتاجية خمس دول وهي بريطانيا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، قدم الفيلم مباشرة اتهاماً إلي المؤسسات العسكرية التي تورطت في إعلان الحرب ضد العراق.. كل الأفلام التي سبق وأن أعلنت هذا الاتهام استندت إلي أن المبررات المعلنة لم تكن أبداً صحيحة فلا توجد أسلحة دمار شامل تتيح للقوات الدولية تحت ستار أمريكي وأوروبي غزو العراق مثل فيلم «المنطقة الخضراء»، علي سبيل المثال الذي تبني إعلان هذا الرأي مباشرة.. هذه المرة مع «كين لوتش» أكد التواطؤ وأن هناك من مارسوا اللعبة سواء المدنيين أو العسكريين لتحقيق ثروات مالية علي حساب الجثث التي تناثرت علي أرض المعركة من المحتلين أو رجال المقاومة.. يقدم المخرج حكاية صديقين، عمر هذه الصداقة تجاوز الثلاثين عاماً منذ أن التقيا في المدرسة في ليفربول كان يزوغان من المدرسة ليمارسا كل شقاوة الأطفال وكان لديهما حلم يكبر بينهما كلما مرت السنوات، وهو السفر حول العالم، قبل ست سنوات استطاع أحد الصديقين «فيرجس» أن يقنع صديقه «فرانكي» بالالتحاق بفريق الأمن في بغداد مقابل «10» آلاف جنيه إسترليني في الشهر، هذا هو ما نكتشفه مع اللحظات الأولي للفيلم عندما يشاهد في الكنيسة جثمان «فرانكي» في النعش قبل الصلاة ونري معركة بين اثنين وصفعات تنهال علي وجه «فيرجس» من امرأة هي «راشيل» صديقة «فرانكي».. فلقد عاد جسده سنة 2007 إلي بريطانيا. ويبدأ «فيرجس» و«راشيل» في اكتشاف الحقيقة للوقوف علي أسباب الموت الذي يؤكد تورط وتواطؤ الكثيرين، ومن هنا يبدأ الخيط أولاً وسط الغموض ثم نمسك بالحقيقة وهي أن «طريق أيرلندا» هو طريق الخطر في العراق، ومن يذهب إليه اختار التوقيت الخاطئ. .. كاتب الفيلم «بول لافيرتي» استند إلي عدد من الحقائق الموثقة بالأرقام وكذلك إلي ظاهرة في التعامل مع جثث العائدين من العراق، حيث إن عدداً من المدنيين المتعاقدين مع الجيش لا تقام لهم مراسم الدفن المعتادة للعسكريين وأن هناك شبكات لها مصالح مالية تلجأ لاستخدام كل الأسلحة ومنها الاغتيال لكل من يعترض علي مثل هذه الصفقات، وهكذا تكشف أحداث الفيلم عن مذابح تعرض لها العراقيون ليس من أجل معركة علي الأرض، ولكن لأن هناك من يريد أن يعقد صفقة وكان من أشهرها ما عرف باسم مذبحة «المياه السوداء»، حيث قتل 17 عراقياً وسط بغداد.. الأرقام التي استند إليها كاتب الفيلم تقول إن هناك 9 بلايين دولار كانت هي الثمن وأن كبار العسكريين مثل «ديك تشيني» مثلاً حقق 43 مليون دولار.. إن هذه الأرقام كانت هي البذرة التي نسج عليها الكاتب فكرة هذا الفيلم الوثيقة وكان «كين لوتش» مدركاً أنه يفتح باب جهنم لأنه سيفضح الكبار، إلا أنه فعلها وقدم كل التفاصيل ومنها تعذيب الأبرياء واستمعنا إلي أصوات باللغة العربية من أهالي العراقيين الأبرياء الذين واجهوا القتل بكل بشاعة دون جريمة.. قيمة الفيلم الفكرية قائمة علي أن الملفات لاتزال ساخنة وأنه من الممكن أن تتسع بعد عرض الفيلم دائرة الشكوك والاتهامات لتشمل الكثيرين.. حرص المخرج علي أن يرتكز إلي المشاعر الإنسانية لأبطاله حتي علاقة الحب التي تنمو بين بطل الفيلم «مارك وماك» و«أندريه لومي» بدأت بإحساسه القاتل بتأنيب الضمير ولهذا يطلب منها أولاً أن تصفعه.. المكان الرئيسي للأحداث هو «ليفربول» وكان المخرج يعود في العديد من المشاهد إلي بغداد لنري وجهاً مختلفاً للحرب التي شهدتها العراق ولاتزال ونتأكد أن حلم الديمقراطية الذي صدرته أمريكا كان مجرد وهم أرادت من خلاله أن تخفي الحقيقة وهي أن رؤوس الأموال امتزجت بالدماء التي راحت تجري علي أرض العراق، لا تستطيع سوي أن تلهث وأنت تتابع الأحداث دون لحظة ملل واحدة، والفيلم الذي جاء في موعده تماماً واستحق بالفعل أن تحطم إدارة مهرجان «كان» كل القواعد حتي تتمكن من عرضه!!.