أنت لا تعرف عزيزي القارئ من هي «ماري رينيه» ولا أنا أعرفها ولا أظن أن أحداً خارج دائرة أهلها وأصدقائها سبق له أن سمع بهذا الاسم من قبل، بل لعله أول مرة (الآن) يُكتب أو تأتي علي ذكره أي صحيفة في الدنيا، فماري رينيه لم تكن من هذا النوع الذي تلاحقه الأخبار ويسكب عليه الإعلام أضواء الشهرة والصيت، فهي أتت إلي الدنيا وعاشت فيها مثل مئات ملايين البشر العاديين، عارية فقيرة من أي بروز أو لمعان في سماوات السياسة أو الفن أو غيرهما ولما حان ميعاد الرحيل رحلت وغادرت دنيانا في صمت وهدوء وباهتمام أقل حتي مما يحظي به العاديون أمثالها.. لماذا ؟ لأن ماري باختصار ماتت بعيداً عن وطنها وصعدت روحها الطاهرة إلي بارئها أمس الأول (الخميس) وهي تعاني ما هو أكثر من برودة الغربة في وطننا نحن وبينما جسدها الواهن مطروح علي سرير حائل اللون في أحد مستشفيات القاهرة. عزيزي.. كل المتاح لي من معلومات عن «ماري رينيه» أنها مواطنة فرنسية لم تكمل السبعين ربيعاً بعد (68 عاماً) أتت من بلادها البعيدة وعبرت البحر إلينا ليس كما قال وزيرنا أبو الغيط لكي تتمتع بشمس بلادنا وتتفسح وتتسكع في شوارعنا وبين آثار أجدادنا، وإنما لتمر فقط تمر من عندنا إلي أهلنا المحاصرين في غزة السجينة وتشارك مئات المخلصين أمثالها للقيم الإنسانية العليا تضامنهم وإعلانهم أن في هذا العالم بشراً نبلاء لم تمت ضمائرهم ولم تتبلد مشاعرهم ولا تآكلت أخلاقهم ولم يعودوا يطيقون الصمت والسكوت عن جريمة بشعة مستمرة يندي لها الجبين ويكابدها شعب أعزل يقاوم بالأجساد والصدور العارية ويكافح ببسالة وبطولة أسطورية لكي يبقي علي قيد الحياة ويستعيد وطنه المسروق من براثن كيان عنصري لقيط ومسلح حتي الأسنان بآلة قتل وتدمير وترويع جهنمية يزيد من بأسها وفداحتها تواطؤ وتخاذل الإخوة قبل الغرباء. لا أستطيع أن أخمن كيف دبرت «ماري» ثمن بطاقة الطيران وباقي مصاريف السفر إلي بلادنا.. ربما اقتطعت من معاشها التقاعدي البسيط، ولعلها قبل أن تسافر هاتفت أخاً أو أختاً، ابنة أو ابناً أو حفيداً وأبلغت أياً منهم بأنها لن تكون بينهم في احتفالات أعياد هذا العام (أعياد الميلاد) لأنها ذاهبة لمصر ومنها إلي أحضان أصدقاء فقراء وبسطاء لا تعرفهم يعيشون وسط مظاهر البؤس والخراب في بقعة علي ظهر هذا الكوكب تدعي «قطاع غزة». من تكون «غزة» هذه ياجدتي ؟! ولماذا تذهبين إلي هناك ؟ ولماذا من مصر ؟! هذا السؤال أفترض أن «ماري» سمعته من حفيدها أو حفيدتها لو كان لها أحفاد ولعل أياً منهما لم يفهم تماماً إجابتها التي شرحت فيها بإيجاز قصة وطن اسمه فلسطين وكيف سُرق هذا الوطن من شعبه بواسطة نازيين جدد أقاموا علي الأرض والبيوت المسروقة كياناً عنصرياً يدعي «إسرائيل»، ومن المؤسف (هكذا أظن أنها قالت) أن هذا الكيان يتلقي منذ حادثة إنشائه غير الشرعية دعماً هائلاً وغير محدود من حكوماتنا وحكامنا نحن هنا في الغرب، أما لماذا ياصغيري أذهب إلي هناك عبر مصر، فلأن هذا البلد العظيم هو جار شقيق لفلسطين ويوجد علي حدوده المعبر الوحيد المتاح للدخول إلي غزة الآن. لكن الموت الذي داهم «ماري» بعدما لم يحتمل قلبها الواهن ما جري لها ولزملائها المتضامنين مع أهلنا الغزاويين في القاهرة وشوارعها، أنقذها وأعفاها من شرح صعب ومؤلم كان سيتعين عليها أن تقدمه لحفيدها (المفترض) لو كانت عادت إليه وعرف أن المهمة النبيلة التي سافرت جدته واغتربت في العيد من أجلها لم تتم !! أيتها الشهيدة النبيلة «ماري»، يا أختنا في الإنسانية..لا أظنك تعرفين لغتنا الجميلة ولا مقدار ثرائها، ومع ذلك ربما تندهش روحك لو أخبرتك أن هذه اللغة وكل لغات الدنيا صارت عاجزة وانهارت كل قدراتها التعبيرية أمام حجم العار والخزي الذي نشعر به نحن شعوب هذه البلدان التعيسة المصابة بحكام كالعاهات المستديمة.. لقد شاهدتِ بنفسك عينة مما نتجرعه كل يوم، فهل تقبلين منا الاعتذار؟! أرجوكِ اقبليه.. اقبليه باسم قوافل شهدائنا الأبرار الذين ستلتقين أرواحهم في الخلود الأبدي.. سامحينا واقبلي الاعتذار باسم أطفالنا الذين ماتوا واحترق لحمهم الغض وهم في أحضان أمهاتهم في غزة ودير ياسين وحيفا ويافا ونابلس ورام الله وفي مدرسة «بحر البقر».. اقبليه باسم المصلين الشهداء في المسجد الأقصي أو هؤلاء الذين سقطوا علي عتبات كنيسة «المهد» وفي جوارها..وإن شئتِ اقبلي شفاعة شهداء عمال مصنع «بحر البقر» أو مئات أسرانا العزل الذين قتلوا أو دفنوا أحياء في صحراء سيناء.. اقبلي اعتذارنا يا «ماري» عن موتك البارد الغريب في ديارنا فنحن كما رأيتِ غرباء نموت خزياً أو بؤساً في أوطاننا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.