عندما أتابع المسئولين في الدولة، من الرئيس إلي أصغر مسئول أدرك تفسير الحقيقة التي اكتشفتها فجأة ذات يوم. الحقيقة هي أن المسلسل هو الفن الوحيد الذي تطور في عصر مبارك، والمقصود هو الحلقات التليفزيونية، والتطور يعكسه اتساع دائرة البيزنس الخاص بإنتاج حلقات درامية طويلة، لها جمهور واسع تلتقطه شركات الإعلان، وتستثمره في قنوات تعرض 24 ساعة من الحلقات. وبعدما كان عبد الناصر يهتم ببرامج الإذاعة وأصوات مذيعيها، والسادات ببرامج حكاياته الذاتية... كما شهدت سنوات مبارك ازدهار المسلسل التليفزيوني باعتباره «الصناعة» الأولي لمصر في مجال الإعلام الذي كان وقتها رسمياً، ثم حدث الانفجار الهائل بظهور قنوات خاصة تعرض 24 ساعة من المسلسلات التليفزيونية. فيض لا يتوقف، ولا يمكن تأمله أو متابعته، له موسم كبير في شهر رمضان، ومواعيد ثابتة، يسعي فيها المسلسل إلي اللهاث وراء المشاهد وليس العكس، فالمسلسل سيصلك وقتما تريد، وإن لم يكن علي هذه القناة، سيكون علي قناة أخري، ليس المهم المتابعة ولكن التقاط أطراف من حكايات متناثرة، تحاكي الواقع ( مع التركيز مؤخراً علي السياسة) مختصرة الدراما ذلك الفن الواسع ( المهتم بمآسي وكوميديا الإنسان في السينما والإذاعة والتليفزيون والمسرح) في تلك الروايات التليفزيونية التي تحسب بالساعات. المسلسل...عقلية كاملة، سيطرت علي صنَّاع القرار من التليفزيون والبيزنس إلي السياسة وقصور الحكم. كل القضايا الكبري تحولت إلي «مسلسلات» بداية من شركات توظيف الأموال..وحتي هشام طلعت مصطفي.. لا حسم ولا نهاية متوقعة، ولكن مطاً وتطويلاً مرهقاً يبرد الحدث، لكنه لا يمنع من متابعته، وتحويله من «صدمة» إلي «حكاية» يمكنها أن تشغل الليالي المملة بتصاعد مثير للحدث. العقل السياسي الذي حكم مصر في الخمسينيات والستينيات اعتمد علي فكرة الصلابة واختار «الخطابة» كتراث قديم يعبر عن فروسية البطل وتراث حديث يصعد فيها الزعيم الملهم إلي الشرفات ليحدث الحشود الغفيرة ويعلمهم ويمنحهم دروساً في التاريخ. عبد الناصر اعتمد علي الخطابة؛ لأنها ساحة مواجهة وحسم لمعارك مع الأعداء المقيمين خارج ساحة الجموع، صلابة بلا دراما، وظل ناصر حكاية إرشادية، أحادية الاتجاه، بلا تفاصيل ولا ثنايا درامية. السادات درامي أكثر، وخطاباته لم تخلك من درامية «البطل السينمائي» لا «الحربي» كما كان عبد الناصر. برامج السادات الحكائية كانت تكمل صورته «الريفية» المعتمدة علي روايات شفاهية تحوله في الليالي إلي أسطورة، تسيطر علي عقل مشاهد يري فيه «عمدة» بلا بطولات، لكنه الحكيم والداهية وصاحب الخبرة والمقام والمركز الاجتماعي. مع مبارك أصبحت المسلسلات حقيقة واقعة، وترسخت أشكال أوبرا الصابون SOAP OPERA. لماذا المسلسلات؟ ولماذا يمنحني التفكير في عصر مبارك شعوراً بأننا نعيش أوبرا صابون طويلة؟ هذه حكاية أخري.