ربما أدرك محمود مرسي خطورة اللقاء المباشر مع الناس أن يراك الجمهور بلا حاجز الشاشة وبلا قدرة علي الإجادة والتعديل وإخفاء ملامح القلق والتعثر، وربما ملامح النهايات أن تصعد علي خشبة لا تتيح لك الإعادة حتي تصل إلي درجة التشبع، هكذا لم يمثل محمود مرسي علي المسرح، رغم أن أسلوبه وقدرته علي التعبير الجواني يرشحانه ليكون «وحشاً من وحوش المسرح»، لكنه لم يذهب أساساً إلي التمثيل مباشرة حام حوله أولاً باعتباره طريقة لكسر الغربة والخروج من وحدة صنعها قلق المحروم من بيت عائلي هادئ، ثم بعد ذلك هرب منه إلي الإخراج الأقرب إلي هندسة من حتي لا تتورط في مواجهة الناس مباشرة، لكن التمثيل طارده، حكي الممثل عبد الغني قمر عن «ممثل كبير» مختبئ في استوديوهات الإذاعة. لم يكتمل المشروع مع يوسف شاهين، لكنه أعطي إشارات للخروج من مأزق جديد مع العمل عندما وجد محمود مرسي نفسه في الشارع بعد الاستغناء عنه في التليفزيون، كان هو وحسين كمال أول دفعات أرسلتها الدولة لدراسة الإخراج التليفزيوني في روما، نجح مرسي في التمثيليات وحصل علي إشادات من الرئاسة، طالبه الوزير بتكرار التجربة وفق سياسته «الكم.. لا الكيف»، اعترض مرسي منحازاً ل «الكيف»، وجاء التمثيل منقذاً استدعاه المنتج رمسيس نجيب وتصور أنها الفرصة ليخرج فيلمه الأول، لكن هناك وجد نيازي مصطفي يعرض عليه الدور الأساسي في «أنا الهارب»، هذه هي البداية «1962». أصبح محمود مرسي ممثلاً في عز عصر الثورة وصعود الطبقة الوسطي بأفكارها الكبيرة واليوتوبيا ونماذجها النبيلة فتي الشاشة، في ذلك الوقت كان ينتمي إما إلي فرسان وأبطال وأنبياء اجتماعيين، كما كان أحمد مظهر بملامح وجهه التي تجمع بين ملامح الفارس الارستقراطي وصورة الرجل الشرقي، إضافة طبعاً إلي فكرة أنه ضابط من سلاح الفرسان تخرج في الكلية الحربية عام 1938 في الدفعة التي تضم كلاً من «جمال عبد الناصر» و«أنور السادات» و«حسين الشافعي» و«عبد اللطيف البغدادي» و«خالد محيي الدين».. وهم الذين عرفوا فيما بعد بالاسم الشهير: «الضباط الأحرار»، وقتها كان الضابط هو فتي الأحلام يحمل رسالة تغيير للمجتمع، وفي الوقت نفسه يحمل إغراء السلطة والنفوذ. أحمد مظهر كان المرحلة الوسطي بين فرسان الملكية بوجوههم ذات الملامح الأرستقراطية «الأمير الظريف في الأيدي الناعمة» وفرسان الثورة التي كان زعيمها ابن موظف في البوسطة في «النظارة السوداء» كان داعية القيم الفاضلة وحقوق العمال الذي انحرف قليلا لكنه عاد بعد قليل). مظهر كان ينافس رشدي أباظة بوسامة العائلات الأرستقراطية القديمة والذكورة الحسية المباشرة الذي قفز إلي مصاف النجوم الأوائل مع نهاية الحرب العالمية الثانية في ظل قائمة جديدة لنجوم ملامحهم أكثر مصرية مثل: فريد شوقي وعماد حمدي وكمال الشناوي وشكري سرحان.. كان هؤلاء يستعدون لاحتلال مواقع النجوم الذين كانوا انعكاساً مباشراً للنجوم في أوروبا أمريكا، هكذا كان النجم اللامع هو أنور وجدي أو كلارك جيبل المصري. محمود مرسي قدم من مساحة مختلفة، لا من أيقونات المرحلة ولا من دفعات معاهد المسرح، كان في مستوي مختلف عن صناعة النماذج، مكانه كان محجوزاً في الألعاب النفسية، أزمات الشرير بالعقل لا بالجسد (الليلة الأخيرة والباب المفتوح)، والديكتاتور في مأزقه العاطفي «شيء من الخوف»، والثوري الذي أكل الثورة علي جسر نزواته «السمان والخريف»، والخائن المهووس بخيانة زوجته «زوجتي والكلب»، والمستبد الذي يلهو به تابعه «الخائنة» وهكذا حتي مفارقة الموظف الكبير الذي يعزف خلف راقصة من أجل توفير الأمان المالي لعائلته في زمن الانفتاح (فيلمه قبل الأخير: «حد السيف». صنعت السينما صورته ديكتاتور في لحظة صدام بين قوته وعاطفته، والتليفزيون فتح له طريقا آخر: دون كيشوت أبو العلاء البشري محارب طواحين الهواء القادم من الريف إلي المدينة بالأحلام والهزائم المتتالية. في التليفزيون عثر محمود مرسي علي موقعه المحبب في السنوات الأخيرة. استراح لفكرة المشاهد التي يمكن تجويدها واستراح لصورته الجديدة، «وهكذا رحل وهو علي موعد مع مسلسل جديد»، وكلاهما الديكتاتور ودونكيشوت أقرب إلي حالات الدفاع عن تاريخه مع الغربة أنها الدفاع المثل عن ذات طفل في مواجهة عالم ليس له، المدهش أن محمود مرسي غاب وهو يشعر بالغربة، كما بدا من تعليقاته النادرة في السنوات الأخيرة، كما بدت عزلته في الأيام الأخيرة. هل كان محمود مرسي يخاف من أن تكون نهايته مطفياً وسط «شطار» السوق الجديدة في السينما؟! شطار لم يتدربوا علي التجويد ولا يعتنون بثقافة أبعد قليلا حتي من نثار الأفكار السطحية العمومية؟! ربما لا أحب الآن تقديس كلاسيكية محمود مرسي لكنني أريد استعادة روح كبيرة فقدها الفن والحياة في مصر.