النشطاء والسياسيون وأصحاب الرؤى على دماغى من فوق، لكن ليس هؤلاء ما تنتظر مصر جلوسهم على مقاعد الحكم ليجرِّبوا فينا!
مصر لم تكن منذ أربعين عاما ملعبًا للسياسة الحقيقية وتداول السلطة وانتخابات للمحافظين أو رؤساء الأحياء والمدن، بل حتى منصب العمدة الذى كان بالانتخاب تحول إلى تعيين.
من هنا حدث جفاف هائل فى النهر.
لم يعد هناك شخصيات تجمع بين النظرى والعملى، بين إرادة الأفكار وإدارة الواقع، بين مقتضيات السياسة وضرورات المسؤولية، لا شىء من هذا متوفر لدى قطاع السياسيين فى مصر الآن، وهو ما يجعلنا نعانى بقوة وبقسوة من نخبة تدور حول نفسها وترغى أكثر مما تعمل، وتنظِّر أكثر مما تفعل وتفشل فى اختبارات عديدة حين تستوجب عليها الظروف أن تتخذ قرارا أو توجه سبيلا أو تجدد موقفا.
ولهذا يبدو طبيعيا جدا منذ ثورة 25 يناير أن نسمع ونقرأ كثيرين يعربون عن صدمتهم فى فلان أو علان، ويصبح بديهيا أن نفقد فى الطريق شخصيات سياسية اهتزت أو سقطت فى أعين الناس لسبب بسيط. إن الاختبارات والامتحانات ظهرت وزادت وتدافعت فانهار مَن انهار، وانكشف مَن انكشف.
لقد انتقلت القوى السياسية ونشطاء السياسة من النظرى للعملى فخاب من خاب وضاع من ضاع، وكانت نسبة النجاح محدودة جدا.
ثم ها هى القوى السياسية (وكان منها الإخوان أيضا) انتقلت من المعارضة المفترضة إلى الحكم واتخاذ القرار وإذا كان الإخوان قد سقطوا سقوطا مدويا، أفضْنا فى شرحه، فإن الخوف من فشل السياسيين الذين يذهبون من الدار إلى النار فجأة، من الرصيف السياسى إلى إدارة الحكم، سوف تغلب عليهم قلة الخبرة أو انعدامها ولا يفهمون الفرق بين رأى كانوا يطرحونه وقرار يجب أن يتخذوه، وسيكون رضاهم عن أنفسهم نابعا من تهليل أو بهدلة على «تويتر» من أصحابهم وليس انطلاقا من الالتزام بالمسؤولية عن أمانة ومصير شعب موضوع بين أيديهم.
سنعانى جدا، ويجب أن نستعدّ ونحذّر فى اختياراتنا وفى ترشيحاتنا من هنا ورايح، ولا بد من التفرقة بين قدرة هؤلاء السياسيين على أن يكونوا نوابا ممتازين فى البرلمان، وبين أن يكونوا أصحاب قرار يومى تنفيذى ومسؤولية تجاه شعب وعالم ودول وكون وأجهزة ومؤسسات.
دعنى أوضح لكم معنى احتياجنا إلى رجل دولة حين أعود إلى أحداث الشغب والعنف الرهيبة التى اجتاحت لندن فى أغسطس 2011.
كيف تصرّف ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا ابن الديمقراطية الإنجليزية العريقة؟
هل سقط فى النظريات؟
هل تردد وتفرج؟ هل ارتبك واحتار؟
هل تم ابتزازه من إرهابيى الشوارع؟
قال فى خطابه مثلا:
- «جئت لتوِّى من مؤتمر آخر للجنة الطوارئ وأود أن أطلعكم على آخر تطورات الموقف والإجراءات التى يتم اتخاذها لوقف هذه الأعمال العنيفة فى شوارعنا منذ أمس، هناك الكثير من أفراد الشرطة فى الشوارع والكثير من الناس تم القبض عليهم والكثير تم توجيه التهم إليهم واحتجازهم (لم يتردد فى اتخاذ إجراءات القبض والاحتجاز، بل وأعلن بمنتهى الوضوح والاستقامة للناس مسؤوليته عن ذلك)».
ويضيف فى خطابه أمام مجلس العموم:
- «الليلة الماضية كان هناك نحو 16 ألف شرطى فى شوارع لندن، وهناك دلائل على وجود نهج قوى للشرطة فى لندن نتج عن ليلة أهدأ حول العاصمة، اسمحوا لى أن أقدم تحية إجلال لهؤلاء الضباط الشجعان، وبالطبع كل فرد يعمل فى خدمة الطوارئ (لم يخجل أن يُحَيى شرطته، بالمناسبة كانت تتعرض لاتهامات باستخدام عنف مفرط وأيضا بالإهمال، وتأمَّل زعامته وحزمه وهو يضيف، انطلاقا من مسؤوليته تجاه بلده وبحكم موقعه: هناك 750 فردا تم القبض عليهم فى لندن يوم السبت وأكثر من 160 شخصا تم توجيه التهم إليهم. اليوم عمليات الشرطة الرئيسية فى طريقهم -فى أثناء حديثى- إلى القبض على المجرمين الذين لم يتم العثور عليهم فى الليلة الماضية من خلال كاميرات سرية قريبة. سيتم تحديد هؤلاء المجرمين بالصور والقبض عليهم ولن ندع الادعاءات المزيفة بشأن حقوق الإنسان تعوقنا عن نشر هذه الصور أو القبض على هؤلاء الأفراد».
هنا مربط الفرس. اعتبر أن الادعاءات المزيفة بحقوق الإنسان لا يمكن أن تعوقه عن حقوق الإنسان البريطانى فى أن يحميه من الإرهاب والعنف والرعب والفزع والفوضى. يفهم رجل الدولة الديمقراطى أن الديمقراطية ستموت لو استسلمت للعنف وللشغب، وأنه من أجل الديمقراطية لا بد من محاربة الإرهاب.
لن تجد كاميرون فى مصر حتى الآن على الأقل. الموجود رجل دولة جامد ومتردد أو سياسى يتم ابتزازه بمنتهى البساطة فيهلفط ويتلخبط ولا يفهم الفرق بين حقوق الإنسان وتدمير حقوق الإنسان بادّعاء الدفاع عنها!