سيسجل التاريخ أن مليونًا ونصف المليون إنسان، عربًا ومسلمين عاشوا تحت الحصار الصهيوني العربي ما يقرب من ثلاثة أعوام حتي الآن وتعرضوا لحرب شنتها إسرائيل عليهم وهم تحت الحصار ما يقرب من شهر، فصمدوا وصبروا فثبتهم الله ولم يمكن أعداءهم منهم رغم أن أعداءهم يملكون أحدث أنواع الأسلحة وأقوي أنواع العتاد وأقوي الجيوش في العالم، بينما هم لا يملكون إلا أنفسهم وأنواعًا بدائية من السلاح، وحقق الله علي أيديهم ما حققه علي يد أسلاف لهم من قبل وأدخلهم حسب المعطيات البشرية المنظورة والمرئية في زمرة «وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين»، يحدث هذا في وقت يزيد عدد المسلمين فيه عن مليار وثلاثمائة مليون إنسان، يصدق فيهم قول الرسول - صلي الله عليهم وسلم - إنهم «... غثاء كغثاء السيل» حكامهم أعوان لأعدائهم، وذو الرأي فيهم أفسدته أنانيته، أما الحليم فيهم فقد ضيعته حيرته، وأما ذو العزم والهمة فقد أفسده المسلك الجائر إلا من رحم ربك من كل هؤلاء، بينما الأمة في أغلبها ينتظرون قدرهم أو أن يرسل الله لهم من يجدد لهم أمر دينهم، بعدما طفح الكيل، وطفح الصاع وبلغ السيل الزبي. عام كامل منذ الحرب الإسرائيلية علي قطاع غزة، يحاصر فيها مليون ونصف المليون إنسان يكابدون مشاق الحصار ويموت أطفالهم وشيوخهم أمام سمع الدنيا وبصرها، وأمام سمع حكام المسلمين وبصرهم وبدلا من أن يسعي هؤلاء الحكام إلي رفع الحصار والاستجابة لنداء الإنسانية ثم نداء الأخوة والدين، فإنهم يقوون ظهر الصهاينة وأعوانهم ويشتدون في تقوية الحصار علي أبناء غزة ويحشدون من الكُتَّابِ المنافقين والإعلاميين المنتفعين من يساعدهم في شن الحرب علي المحاصرين الأبرياء لا لشيء إلا أنهم يقفون حجر عثرة أمام مخططات الصهاينة وأعوانهم، ويرفعون راية العزة والإباء التي تخلت عنها الأمة واستكانت ضعفًا وعجزًا تارة ونفاقًا تارة وخداعًا تارة أخري. وسط هذه الصورة القاتمة لا أدري لِمَ يتفنن النظام الحاكم في مصر في إذلال وإهانة أهالي غزة بهذه الطريقة المخزية وهم امتداد لأهل مصر، حيث كانت غزة حتي العام 67 جزءًا من مصر وعلي امتداد التاريخ قبل الحدود التي صنعها الاستعمار كانت من أصولها وأفضل دليل علي أنها مخزية لهذا النظام المتسلط علي شعبه أولاً ثم علي أهل غزة بعد ذلك هو التخبط والكذب في تصريحات المسئولين حول ما يسمي بالجدار الفولاذي التي تقيمه الولاياتالمتحدة مع حلفائها علي طول الحدود المصرية مع قطاع غزة لتحكم الحصار علي مليون ونصف المليون فلسطيني مع حملة من الخداع والنفاق والكذب حول أمن مصر القومي، والأبشع من ذلك هو الموقف المخزي من قافلة «شريان الحياة» التي لاقت الترحاب في كل البلا د التي مرت بها علي امتداد أوروبا وآسيا، ثم يخرج المسئولون المصريون بتصريحات مخزية ومهينة للشعب المصري صاحب المروءة والهمة والنصرة الذي اقتسم أبناؤه غذاءهم مع إخوانهم أبناء غزة قبل عام، ثم تركت الأغذية في ستاد العريش وقد رأيتها رأي العين حتي فسدت أو سرقت ونهبت وبيعت في الأسواق بعد ذلك. هل أمن مصر القومي يقف عند حدود الحدود المصطنعة مع غزة والتي قسمت العائلات المصرية في مدينة رفح بشقيها المصري والفلسطيني إلي شقين والمنازل إلي شقين والشوارع إلي شقين، أم أن أمن مصر القومي علي مدار تاريخها يقف عند حدود شمال سوريا منذ عهد الفراعنة وحتي الآن شرقًا وعند منابع النيل وجنوب السودان جنوبًا؟! أي نفاق وأي خداع وأي كذب هذا الذي يروجه هؤلاء الأفاقون الذين باعوا ضمائرهم ودينهم وأوطانهم وأمتهم بعرض زائل من المناصب والمظاهر الخادعة، ويشاركون في حملة تضليل مكشوفة ومزيفة من أجل إرضاء الصهاينة والأمريكان علي حساب التاريخ والجغرافيا ومصالح مصر وأمنها وسيادتها وشعبها، هل المناصب الرسمية في مصرنا العزيزة لم تعد في أغلبها مصدرًا للتربح والفساد والإفساد فقط، وإنما أيضا مصدرًا للكذب والتضليل والخداع بهذه الطريقة المهينة لمصر وتاريخها وشعبها. إن السيادة ليست في بناء الأسوار الفولاذية وعزل شعب أعزل هو امتداد عرقي وديني وثقافي وتاريخي وجغرافي لشعب مصر حتي عن الحصول علي طعامه وشرابه، وليست السيادة في منع قافلة إنسانية تحمل مساعدات من الوصول إلي المحاصرين الذين يموت أطفالهم ونساؤهم ومرضاهم تحت الحصار، لكن السيادة هي سيادة القرار والرؤية وعدم التضليل والخداع والكذب للشعوب وللعالم وتقديم مصالح العدو علي مصالح الوطن في وقت فضح الإسرائيليون فيه قصة الجدار في صحفهم ووضعوا المدافعين عن إسرائيل وأمنها في وضع سيئ إن كان يهمهم أين ستكون منزلتهم عند شعوبهم أو في صفحات التاريخ، لكنهم مارسوا التضليل والكذب ببجاحة منقطعة النظير، تصاحبهم الجوقة الأفاقة من السدنة المنافقين والمنتفعين ممن يسمون أنفسهم إعلاميين. لقد بني سور برلين بعد الحرب العالمية الثانية اعتقادًا ممن بنوه أنهم يمكن أن يعزلوا الشعب الواحد عن بعضه، وجاء الوقت الذي ذهب فيه الأفاقون الذين بنوا السور إلي مزبلة التاريخ وهدم السور وعاد الشعب الألماني موحدًا وبقي الجدار رمز إدانة للذين بنوه، وهذا سيكون مصير الجدار الفولاذي عاجلاً أم آجلاًا ليكون جدارًا عارًا علي أهل العار الذين يحاصرون النساء والأطفال والمرضي والعجائز. إن الأيام التي نمر بها لاشك أنها عصيبة ومن الصعب وصف ما آل إليه أمر الأمة فيها وأقل ما يمكن وصفها بأنها أيام للذل والعار، لكنها في النهاية مرحلة من مراحل التاريخ قدرنا أن نعيشها ونتجرع مراراتها، لكن يجب علي الأقل أن نرفع أصواتنا فيها لنفند الأكاذيب التي يروجها المضللون حتي إذا جاء من بعدنا من هم أهل للسيادة والريادة من أبنائنا وأحفادنا لا يصبون لعناتهم علينا جميعا ويظنون أن الجميع كانوا مضللين ومتواطئين ومتقاعسين وفاسدين ومنتفعين، ولكن علي الأقل يترحمون علي بعض من صدع بالحق فينا، فليس بعد الظلمة الحالكة إلا خيط الفجر ثم ضوء النهار، ونحن من يأسنا نقول دائما... عسي أن يكون قريبًا.