حماس تطلق حملة لمكافحة التخابر مع الاحتلال.. وتطالب العائلات بالإبلاغ عن المشتبه فيهم «الحملة الوطنية لمكافحة التخابر مع الاحتلال»، كانت إحدى الحملات التى أطلقتها حركة حماس فى منتصف مارس الجارى والتى من المقرر أن تستمر حتى 12 مايو المقبل داخل قطاع غزة من خلال أجهزة وزارة الداخلية التابعة للحركة، وكان وزير الداخلية فتحى حماد قد أكد أن الحملة انطلقت بتنسيق كامل مع المؤسسات الحكومية وأيضًا غير الحكومية والفصائل السياسية وأعرب عن أمله فى تعاون وتكاتف باقى مكونات المجتمع الفلسطينى، ويبدو أن إطلاق الحملة على هذا النحو، دفع كثيرين داخل فلسطين وخارجها وتحديدًا -القارئ المصرى من الجيل الجديد- إلى إثارة الحديث مجددًا عن ملف «التخابر مع الاحتلال» داخل القطاع.
1- إجراءات وقائية أم ظاهرة
بدا واضحًا وجليا منذ اللحظة الأولى لإطلاق الحملة حرص وزارة الداخلية على تأكيد أن الهدف من الحملة ليس مواجهة ظاهرة مستفحلة فى قطاع غزة بقدر ما هى إجراءات وقائية لتحصين الشعب الفلسطينى من الوقوع فى فخ التخابر مع الاحتلال ونشر الثقافة الأمنية المجتمعية خشية أن يكونوا ضحية لأى ابتزاز يمارَس عليهم من جانب الاستخبارات الإسرائيلية، لكن المتابع للحملة يدرك تمامًا أن المعيار الأساسى لنجاح الحملة لدى حكومة حماس متمثل فى عدد العملاء التائبين -على حد وصفهم- أىْ الأشخاص الذين قرروا التوقف عن التعاون مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، فغالبية اللقاءات الصحفية والإعلامية للقيادات الأمنية بجانب المواد الفيلمية والإعلامية تركز على مناشدة العملاء التراجع وإعلان التوبة، حيث وجه وزير الداخلية فتحى حماد فى فبراير الماضى قبل إطلاق الحملة بأسابيع عبر فضائية «الأقصى» نداءً قال فيه «لكل العملاء الذين يسمعوننا الآن، جرّبونا مهما بلغ الأمر، ستجدوا ما يستر عليكم، ولا يفضحكم ويحافظ عليكم وعلى أهلكم من السمعة السيئة هذا وعد».
وأوضح حماد أن الهدف هو تطويق هذه الظاهرة، واجتثاثها من جذورها مع «وعد» بفتح باب التوبة، حيث قال: مَن جاء تائبًا مقدِّمًا للمعلومات وكل ما حصل معه، مع العدو الصهيونى سنستر عليه. وناشد العائلات قائلًا: «نحن نقول لكل من شعر من أبناء الشعب الفلسطينى بأن هناك شبهات تدور على شخص من أبنائهم الأفضل لهم أن يقدموا هذه المعلومات ويقدموا هذا الرجل لتستر عليه، حتى لا يتردد اسم العائلة لأن أى عميل بالتأكيد يشوّه اسم عائلته لو حصل، لذلك نحن نهيب بكل المواطنين على مستوى الآباء والأمهات وعلى مستوى الفصائل وعلى مستوى المؤسسات، على كل المستويات، مَن كانت لديه بعض المعلومات نقوم بعلاجها على أساس من الحكمة والخبرة التى لا تُخدش سُمعة العائلة حتى سُمعة نفس المشتبه به بحيث نقوم بتغطية هذه الأمور بإذن الله سبحانه وتعالى وهذا وعد، كما وعدنا سابقًا».
وحذّر حماد من أن تفشّى الظاهرة يشوّه صورة الشعب المقاوم، إذ قال «يجب أن نكون صفًّا واحدًا فى مواجهة هذه الحملة التى تسىء إلينا كشعب فلسطينى مسلم وتسىء إلى عاداتنا وتسىء إلى المقاومة، كيف يقال إننا شعب مقاوم وكل الناس وكل الأمة العربية والإسلامية تتغنى بالانتصارات التى يُحدثها هذا الشعب ويقوم بها، ثم يأتى هذا وفلان وعلان لضعف نفسيته أو لشهوته أو لهواه بنقل المعلومات عن المقاومة التى هى فخرنا وتاج رأسنا، فى هذا المجال سنضرب من حديد وسنواصل عملية الضرب».
جهاز «الشاباك»، أو «الشين بيت»، هو جهاز الأمن الداخلى فى إسرائيل والمسؤول عن عمليات تجنيد الأفراد داخل قطاع غزة وجمع أكبر قدر من المعلومات الاستخبارية التى يتم توظيفها فى شن عمليات التصفية والاعتقال بحق قادة ونشطاء المقاومة، حيث يقسّم «الشاباك» قطاع غزة إلى مناطق ومخيمات ويتولى كل ضابط مسؤولية منطقة محددة، يكون على إلمام تام بتفاصيل المنطقة من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفى ضوء ذلك يحدد احتياجاته المعلوماتية، ومدى أهمية الشخص الماثل أمامه. هل عضو فى فصيل سياسى، أو ينتمى إلى عائلة بعينها، أو يسكن بمنطقة تشهد وجودا لكوادر المقاومة، هل يعمل فى مستشفى، أو مؤسسة حكومية، ومن هنا أيضًا تتحدد أهمية تجنيده.
عندما كان الحاكم العسكرى الإسرائيلى قبل انسحاب إسرائيل من غزة فى 2005 هو المسؤول عن القطاع، كانت الحياة اليومية للمواطنين لا تسير إلا بقرارات صادرة من ذلك الحاكم، فالسفر بتصريح سواء كان للعمل أو للعلاج أو للدراسة.. إلخ. وكان ضباط «الشين بيت» تأتى لهم قائمة بالسكان الذين يريدون الحصول على موافقة الحاكم العسكرى فى العديد من الأمور، ومن خلال استعراض ضباط «الشاباك» تلك القائمة يحددون كيفية التعامل مع كل مواطن على حِدة.
يعقوب بيرى رئيس جهاز «الشاباك» من 1988 حتى 1995، يحكى فى مذكراته «القادم يقتلك.. استبق واقتله» كيف تم تدريبه ليس فقط على ما يخص الشأن اليومى لحياة الفلسطينيين بشكل عام بل ما يخص كل منطقة على حِدة، حتى تم تعيينه مسؤولًا عن عشرات القرى وعديد من مخيمات اللاجئين وكانت مهمته إيجاد عملاء ومصادر معلومات استخبارية من أجل منع وصد عمليات الفدائيين.
وكانت الوسيلة الأولى هى التسلل عبر معاناة الفلسطينيين. يحكى بيرى قائلًا: أُعدّت قائمة بالسكان الذين طلبوا امتيازات مختلفة من الحكم العسكرى. دعوناهم إلى مقابلات فى مكاتب الحكم العسكرى -كما لو أن ذلك لغرض المسألة التى توجهوا بشأنها- وحاولنا خلال الحديث أن نعرف إذا ما كانوا سيوافقون على العمل من أجلنا، وقد ردت غالبيتهم الساحقة بالرفض أو تهربوا بذرائع مختلفة.
وأبلغت فى يوم خماسينى فى ذروة الصيف أن أحد القرويين الذى عاش فى منطقة مليئة ب«المخربين» يطلب تصريحًا للمتاجرة داخل الخط الأخضر، استدعيته إلى مقابلة وعرضت عليه التعاون وقد وافق فورًا تقريبًا. واتفقنا على أن نعود ونلتقى فى مكان سرى ليس بعيدًا عن قريته حيث كان يفترض أن يحضر إلى هناك المعلومات الأولى التى سيجمعها.
وعند المساء قبيل موعد اللقاء كنت أستعدّ للخروج إلى المنطقة برفقة حارسى الدائمين وهما مظليان فى الخدمة النظامية كانا يمكثان بمعيتى طوال ساعات اليوم. وفى اللحظة الأخيرة أبلغونى أن شخصًا ما لم يكن معروفًا بالنسبة إلىّ يطلب الحديث معى بصورة عاجلة فسارعت عائدًا إلى مكتبى ووجدت هناك قرويًّا متهيجًا.
قال لى: كابتن يعقوب، أنا أعرف أن لديك لقاء هذا المساء مع... وذكر اسم المخبر ووصف المكان الذى حددناه للقاء، وحذرنى قائلًا: لا تذهب. يوجد هناك (مخربون) يكمنون لك من أجل تصفيتك». سألته ما الذى حركه لتحذيرى وقد بدا جوابه موثوقًا حيث ادّعى أنه منذ وقت طويل تسود علاقات كدرة على خلفية نزاع تجارى بينه وبين العميل الذى حاولت تجنيده، ولهذا عندما سمع صدفة عن الكمين الذى يعتزمون نصبه لى سارع لإبلاغى بذلك، ليس من أجل إنقاذ حياتى تحديدًا وإنما بالأساس من أجل أن يدخل خصمه إلى السجن لسنوات طويلة.
بقيت فى نابلس وانطلقت قوة عسكرية إلى المنطقة فورًا وعند اقترابها من مكان اللقاء سمعت فجأة أصوات عيارات نارية واتضح أن (المخربين) فتحوا النار على سيارة «مرسيدس» بيضاء يملكها عربى من سكان إحدى القرى فى المنطقة متخيلين أنها سيارتى. حاصر الجنود المنطقة واعتقلوا (المخربين) والعميل الذى غرّر بى، وخلال التحقيق معه اعترف أن استعداده للعمل لصالحنا استهدف فعلا نصب فخ لى.
الفقرة السابقة توضح وسيلة من وسائل التجنيد المستخدمة من قبل ضباط «الشين بيت»، ويكمل بيرى فى فقرة أخرى «أحد العملاء البارزين الذين جندتهم فى تلك الفترة كان شيخًا محترمًا فى أحد مخيمات اللاجئين الكبرى، قدم طلبًا للحاكم العسكرى للسماح لزوجته بالحصول على علاج لدى طبيب نسائى فى مستشفى (هداسا) بالقدس، ولم يكن مثل هذا العلاج ممكنًا فى نابلس ولا فى الأردن.
استدعيته إلىّ بدعوى مناقشة موضوعه، وحاولت استيضاح ما إذا كان مستعدًا للعمل من أجلنا، وقد أبهر جوابه السلبى بآيات من القرآن وقال بغضب إن مساعدة الكفار تتناقض مع قوانين الإسلام ولذلك فإنه لا ينوى بأى شكل الاستجابة لاقتراحى، ودون أن ينتظر ردى نهض وترك الغرفة.
ويكمل بيرى القصة بأنه مع ذلك أمر بمنح زوجته تصريح خروج من مستشفى «هداسا»، وهو ما أثّر إيجابيا فى الشيخ العجوز حتى عاد وطلب التعاون مقابل استخدام المعلومات فى حماية الأطفال والمدنيين، لكن شهادات الفلسطينيين تؤكد كذب بيرى سواء فى الماضى وفى الحاضر أيضًا، فحسب أهمية المواطن لأجهزة الاستخبارات يكون الضغط والابتزاز والمساومة على أبسط حقوق الفلسطينيين من العلاج والعمل.. إلخ، حتى بعد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ما زالت المعاناة مستمرة فى صور شتى، على سبيل المثال تحول اليوم معبر بيت حانون «إيرز» إلى مصيدة للاعتقال والتحقيق والمساومة بين دخول الضفة الغربية للعلاج أو الزيارة أو العمل وبين إمداد الاحتلال بمعلومات حول المقاومة.
الصراع المخابراتى، واحد من الصراعات الدائمة والمستمرة، التى لا تُحسم بالضربة القاضية، فحركة حماس المتهمة دومًا باختراق إسرائيل لها عبر عملاء استطاعوا كشف تحركات كثير من قيادات الحركة وليس فقط القيادات صاحبة الصفة المدنية والتى من الممكن أن تظهر فى الأماكن العامة، وإنما امتد الأمر لقيادات عسكرية لكتائب القسام، تتبع خططا وإجراءات أمنية شديدة التعقيد لإخفاء تحركاتهم وتنقلاتهم. لا يمكن للمواطن العادى أو حتى الجاسوس العادى اختراق تلك الإجراءات وإنما بجاسوس قريب لا يفارق القيادة المستهدفة.
إلا أن حماس وغيرها من الفصائل تعود وتوجّه مجددًا ضربة أمنية إلى تلك الأجهزة، فعملية الجندى جلعاد شاليط الذى تم أسره فى يونيو 2006 وظل أسيرًا حتى أكتوبر 2011، وفشلت كل محاولات إسرائيل فى الكشف عن مكانه، رغم نجاح الاستخبارات الإسرائيلية فى تحديد مكانه، فإن حماس سرعان ما كانت تتبع تكتيكات أخرى. حتى فى عملية الإفراج لم تستطع التعرف على السيارة التى تصطحب جلعاد من مكان أسره.
ولذلك فالحملة التى أطلقتها داخلية حماس هى إحدى حلقات الصراع الاستخباراتى، غير المتكافئ، حيث تساوم سلطات الاحتلال، مواطنين بسطاء، بين الحياة والتخابر.