شهد القرن التاسع عشر تطوراً فارقاً في مجال الصناعات الثقافية علي النطاق العالمي بفضل التطور التقني الذي تحقق بفضل منجزات الثورة الصناعية، والذي أثر بصورة واضحة في أدوات إنتاج الثقافة، فبعد سنوات طويلة من اختراع جوتنبرج للمطبعة جاء عصر التطورات السريعة. فبينما استغرق الإنسان الأول عشرات الآلاف من السنين ليصل إلي ابتكار الكتابة، فامتلك بذلك ذاكرة خارجية قادرة علي حفظ الخبرة ونقلها عبر الزمان والمكان، وبينما استغرق الأمر بضعة آلاف من السنين ليصل الإنسان إلي اختراع الطباعة، لم يحتج الأمر سوي مئات قليلة من السنين ليحقق البشر إنجازا كبيرا ثانيا في مجال إنتاج الثقافة باختراع التصوير الفوتوغرافي، ثم شهدت فترة لا تجاوز نصف قرن ثلاثة اختراعات كبري، ففي نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر كان اختراع كاميرات التصوير الفوتوغرافي، ثم ظهرت الأشكال الأولي لتقنيات التسجيلات الصوتية، وبعدها كان اختراع السينما مع أواخر القرن نفسه. وكان لكل تلك الابتكارات الجديدة نتائج حاسمة في رسوخ الصناعات الثقافية وتطورها، وعبر القرن العشرين تطورت هذه التقنيات تقنيات الوسائط المسموعة والمرئية وتلك التي تجمع بين السمع والرؤية (السمعبصريات) وكذلك تقنيات الطباعة تطورا هائلا، وإن كان تطور الصناعات الثقافية وسيادتها علي الإنتاج الثقافي لم يسر في خط صاعد باستمرار مثلما هو الحال في تاريخ التطور التقني الذي استمر في صعود متواصل، فلم تقض الصناعات الثقافية علي الأشكال القديمة والتقليدية للإنتاج الثقافي. وقد دفع هذا التطور التقني بالإبداع الذي يأخذ شكل منتجات الصناعات الثقافية ليحتل مكانا متميزا في العمل الثقافي، ولم يعد الأمر قاصرا علي انتشار المعرفة المكتوبة فقط بواسطة الطباعة، بل أصبح من الممكن نشر فنون الموسيقي والغناء عبر المكان والزمان بواسطة الاسطوانات، ثم شرائط التسجيل بأنواعها المختلفة، وأخيرا بواسطة الأقراص المدمجة. كذلك مكن ظهور التصوير الإنسانية من أن تقوم بتوثيق تراثها المادي والمعنوي وإعادة إنتاج نسخ منه قابلة للتسويق، كما أتاح تحويل النصوص الأدبية إلي أشكال مرئية. ثم كان التطور في وسائل الاتصال عن بُعد باختراع الراديو ثم التليفزيون عاملا أضاف قيمة جديدة للصناعات الثقافية، وأضفي عليها قوة وتميزا، وحقق لها انتشارا جماهيريا أكبر بكثير مما تحقق مع التطور التقني في أدوات إنتاج الثقافة، بل أدي هذا التطور إلي ظهور صناعات ثقافية جديدة، قامت علي أنواع أدبية وفنية لم تكن معروفة من قبل كالدراما التليفزيونية والإذاعية. لقد كان اختراع الطباعة وسيلة لانتشار المعرفة وتراكمها، ووسيلة أيضا لاختراقها حدود الطبقات العليا للمجتمع، فكانت لهذا الاختراع آثاره الاجتماعية والسياسية فضلا عن أثره الثقافي، ثم جاءت الاختراعات الثلاثة الكبري في مجال الصورة والصوت، آلات التصوير الفوتوغرافي ووسائل التسجيل الصوتي ثم آلة التصوير السينمائي لتحدث نقلات جديدة في مجال الإبداع. والأمر المؤكد أن الفضل في ظهور الصناعات الثقافية وتطورها يرجع لأمور تقع خارج نطاق محتوي الإنتاج الثقافي ومضمونه تماما، فالثورة التقنية المواكبة للثورة الصناعية هي المسئولة عن هذا التطور بشكل أساسي، فباستثناء الطباعة ترجع كل الإنجازات التي قامت عليها الصناعات الثقافية بالكامل إلي عصر الثورة الصناعية، بل إن الطباعة التي ظهرت قبل ذلك العصر بعدة قرون شهدت نقلة فارقة بفضل منجزات الثورة الصناعية، ومن هنا فلا غرابة في أن عصر الثورة الصناعية قد صبغ الصناعات الثقافية بصبغته وفرض عليها قيمه، بما في ذلك منطق الربح والخسارة، وأيضا المنافسة الضارية بين الصناعات القومية من أجل السيطرة علي الأسواق وبسط الهيمنة عليها، وقد أخذت هذه المنافسة أبعادا أكثر عمقا وخطورة في حالة الصناعات الثقافية، حيث إن محتواها يمس بشكل مباشر منظومة القيم والأفكار السائدة في كل مجتمع من المجتمعات، فظهرت مفاهيم مثل الاستعمار الثقافي والتبعية الثقافية وثقافة التبعية. ولا شك في أن الصناعات الثقافية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتحديث، فلقد ارتبط التحديث مفهوما ومصطلحا وسلوكا بعصر الثورة الصناعية وبما أنتجته من قيم أو بحضارة الموجة الثانية إذا استخدمنا مصطلحات ألفن توفلر. لقد ظهر مفهوم الصناعات الثقافية عندما كانت قيم الثورة الصناعية هي السائدة باعتبار الصناعة القيمة العليا، لكن الآن ومع ثورة المعلومات والاتصالات وقيمها الجديدة وما يصاحبها من تطورات، ما وضع الصناعات الثقافية؟ وهل استمرت أساليب الإنتاج الثقافي نفسها، أم أنها تغيرت وتطورت؟ وهل مازال لمصطلح الصناعات الثقافية استخدامه؟ وهل مازالت له دلالاته نفسها؟