الحوار كان كافياً والمشهد بات معبراً، عن الصراع الكبير الدائم بين الأجيال.. صراع الأجيال يتمثل في وجود اختلاف كبير بين الآباء والأبناء في الآراء والأفكار.. فالأبناء يتهمون آباءهم بأنهم لا يفهمونهم و أنهم متأخرون عن إيقاع العصر ويصفونهم بالمتزمتين والمتشددين، بينما يتهمهم الآباء بأنهم لا يحترمون القيم ولا العادات ولا التقاليد وهم قليلوا الخبرة ومع هذا لا يحترمون آراء و خبرة الآباء .
هذا الصراع يتجسد أيضاً في المفاهيم والقيم والمثل والعادات والتقاليد تتبدل وتتغير ويجد الشباب أنفسهم مشدودين من جهة إلى قيم مجتمعهم ومثله وعاداته وتقاليده.. كما يجدون أنفسهم أيضاً من جهة أخرى مضطرين إلى إحداث ثورة على بعض هذه القيم والتقاليد والمثل وهكذا يحدث الصراع بين الأجيال .
تتعرض بعض المجتمعات لتغيرات سريعة ويصاحب أي تغير اجتماعي سريع عادة صراع في بعض القيم الاجتماعية وتفكك في بعض العلاقات الاجتماعية ونوع من القلق النفسي لعدم وضوح الرؤية المستقبلية.. مما يجعل الشباب في مفترق الطرق حائراً بين التمسك بالقديم المألوف الذي خلقته العادات والتقاليد أو الأخذ بالجديد الذي قد يكون مجهول العواقب في كثير من جوانبه.
المجتمع الواعي الحريص هو ذاك الذي يؤمن بالتطور والتقدم ويبتعد عن الركون والجمود.. ويدرك اذا أراد إيجاد جيل من الشباب نشيطاً متوثباً من أن يتغير ويتبدل ويحرص على أن يتطور نحو الأفضل.. والمجتمع في فترات التغير تختلط فيه القيم وتتداخل الأمور من قديمة وجديدة كما تكثر الاتجاهات وتتصارع حول أهداف ووسائل التغيير ويقع الشاب نتيجة لذلك ضحية هذه التناقضات، ويجد نفسه في حالة من الصراع بين قدرته على العطاء والحلم في التغير وقوى مضادة في المجتمع تتألف من مجموعة عوائق اجتماعية تصد هذه القدرات وتمنعه من تقديم أي دور تغييري.. فإما أن يرضخ و يقبل بهذا الواقع المفروض عليه وينادي بقيمه.. وإما أن يدخل في تناقض معه يدفع به إلى رفض القيم للنظام القائم مما يدفعه إلى أن يعيش أزمة من ابرز مظاهرها الصراع بين الأجيال ويعود تسميتها بذلك إلى هذا الميل أو الرغبة عند الشباب في الانفلات من سيطرة الكبار والثورة ضد السلطة بمظاهرها المختلفة والتحرر من هيمنتها من خلال الثورة على القيم الثقافية للأهل.
جيل الشباب الجديد متعلم متنور مندفع جسور ، لذلك من واجب الأجيال السابقة التي تتحكم بالأمور وتوجهها أن تفسح المجال للشباب في توجيه شؤونهم وأمورهم وتعطيهم صوتاً ودوراً في إفساح المجال لتحديد وتقرير ما يريدون وهذا ما يطلبه شباب اليوم، ولعل تزايد المسافة الاجتماعية بين جيل الكبار الذين يشكلون ثقافة خاصة بهم والتي من ابرز سماتها المحافظة والتقليدية ، وجيل الشباب الذين يشكلون ثقافة خاصة بهم والتي من ابرز صفاتها التمرد والثورة على الأهل والمجتمع والحيوية والديناميكية والبحث عن كل جديد أدت بطريقة ما إلى تزايد حدة الصراع الاجتماعي والثقافي والقيمي على وجه الخصوص لدى الشباب .
للقديم حرمته بل وقدسيته ولكن للجديد بريقه ولمعانه والشباب روح الأمة الوثابة وشعلتها المضيئة وحيويتها الدافقة . علينا أن نلتفت إليهم وان نعدهم أحسن إعداد لتجنيبهم كل انحراف ممكن مما يعود عليهم كأجيال جديدة حديثة العهد وعلى بلادنا بأحسن النتائج.
هنا نقف أمام المشهد الكبير الذي رأيناه جميعاً يعبر عن هذا الصراع بين الأب المسحول الذي عريَّ ولا يستطيع أن يرفع رأسه أمام أبنائه ويريد أن تنساه الناس وتنسى ما رأته وهو يُسحل ويُعرى ظناً منه أن هذا عار عليه ويخشى أن يدخل في صراع مع الدولة الجبارة التي لا يجب أن يقف أمامها، كي يتجنبها ويكمل حياته سيراً بجوار الحائط وربما الأن يتمنى أن يسير داخل الحائط كي لا يراه أحد.. وبين وإبنته التي تعبر عن هذا الجيل الجديد جيل الثورة على كل من هو جبار وهي تحاول أن تستره أمام الناس وتثأر لكرامة أبيها وتقومه وتجعله يرفض كل المغريات التي قُدمت له ولأبنائه رغم أن الأسرة في أشد الإحتياج لكل مليم، لكنها ترى أن حق أبيها في الكرامة أهم من رغيف العيش بل وإن أستدعيَ الأمر أهم من الحياة.
جيل الثورة على الجيل القديم الذي يرى أن الخنوع والمبادئ والثقافات القديمة هي التي جعلته ينبطح ويستسلم أمام قهر الدولة وغطرستها على مواطنيها.. بل وفي بعض الأحوال لتعذيب وقتل والتنكيل بمن قرر أن يأخذ حقه منها.. جيل لا يريد أن يسير بجوار الحائط بل يريد أن يهدم كل الحوائط التي تحول بينه وبين ما يريد، ومستمر في هدم حوائط القيود والرجعية والعادات والتقاليد المبنية على الخوف من كل ما هو أقوى باسم الإحترام.. جيل قرر أن يكون هو مالك الدولة وأن هيبتها هي كرامته وأن كرامته أغلى من حياته.
جيل رفض ماشاهده من مفاسد وتميز وتأخر فتخلت بلده عن ريادتها في الثقافة والسياسة، ويحز في نفسه أن يجدها في ذيل القائمة في كل شيء.. وكان قد اعتاد أن يجدها في المقدمة وهو يقرأ التاريخ .. جيل رفض أن يستسلم لكل هذه الموبقات دون أن يتحرك.. جيل رفض أن يمصمص الشفاه ويحوقل ويستعيذ بالله من كل شيطان رجيم، ثم يترك كل الأشياء تمر, جيل رفض المحسوبية وأصبحت كلمة (بيه) و(باشا) تقال في كل مكان بدءا من موقف السيارات وحتي محراب العلم.. جيل أخذ من شعار ثورة يوليو "كلنا سيد في ظل الجمهورية"صنعه جيل مثلهم وكل ما فعلته الأجيال اللاحقة أنها قامت بدفنه.. وكأن شيئآ لم يكن.
إن هذا الجيل لن يستسلم لأي مغريات تحول بينه وبين ما يريد أن يرى وطنه عليه.
هذا الجيل الذي بشر به أمل دنقل في قصيدته العظيمة "لا تصالح" :
( غدًا.. سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً، يوقد النار شاملةً، يطلب الثأرَ، يستولد الحقَّ، من أَضْلُع المستحيل )
في إعتقادي.. هذا الجيل هو أفضل من أنجبتهم مصر بعد الفراعنة.