كتب: د. عمرو الشوبكي في مصر هناك من طالب بإسقاط الدولة، وهناك من دافع عن بقائها كما هي دون أي تغيير، وهناك ثالث من طالب بإصلاحها، باعتبار ذلك شرطا أساسيا من شروط تقدم هذا البلد، وهناك رابع من كرهها وحاول أن ينتقم منها ويصفي حساباته معها. والمؤكد أن تجربة الإخوان مع الدولة المصرية تنتمي إلى النوع الأخير، الذي عبر في البداية عن عدم فهم لطبيعتها، سرعان ما اتضح أنه يعكس كراهية لكل مؤسساتها، لأن الإخوان حرصوا، على مدار تاريخهم، على أن يكون لهم كيانهم الخاص، وربما دولتهم الموازية، وذاكرتهم التاريخية الخاصة، التي واجهت الذاكرة الوطنية المصرية من سعد زغلول ومصطفى النحاس وحزب الوفد، مرورا بثورة يوليو وجمال عبد الناصر، وانتهاء بنصر أكتوبر وأنور السادات. والحقيقة أن وجود جماعة بهذه المواصفات العقائدية والمرارات التاريخية، بقيت خارج المنظومة السياسية السائدة لأكثر من 80 عاما، حين يفتح الله عليها بالوصول للسلطة في ظرف استثنائي من الصعب أن يتكرر، عليها أن تسير في عكس الطريق الذي كان يجب أن تسير فيه، وأدارت معركتها مع الدولة والمجتمع بصورة انتقامية وإقصائية واضحة. إن ما سبق وسميته من قبل "الدمج الآمن للإخوان" يستلزم الوصول المتدرج للسلطة، ولا يعني قلب المعادلات السياسية والقانونية بجرة قلم، وحين فعل الإخوان العكس تضامن الشعب مع الدولة في مشهد ملحمي نادر لا يتكرر إلا في مواجهة الغزوات الخارجية، ونجحوا معا ويدا واحدة في إسقاط حكم الإخوان. على مدار عام من حكم الجماعة حارب الإخوان القضاء والشرطة، وتربصوا بالجيش، وكرهوا الإعلام، وسيطروا على بعض الوزارات بمنطق الغنيمة والتمكين وليس الإصلاح وبناء الجديد، وإذا كانوا قد قالوا إن الدولة لم تتعاون معهم -وهو صحيح- وفشلوا في إدارتها أو إصلاحها، فلماذا من الأصل قرروا أن يحكموا البلاد؟! ولماذا لم يراجعوا فشلهم وهم في السلطة ولو لمرة واحدة؟! إن الجماعة بصيغتها الممتدة منذ 85 عاما كجماعة عقائدية مغلقة تمارس الدعوة والسياسة والنشاط الاجتماعي، وظلت أسيرة هذه الصيغة حين كانت في المعارضة، وحين كتبت قبل الثورة بضرورة الفصل بين الجماعة الدعوية والحزب السياسي، قالوا إن السلطة لن ترخص لهم بحزب سياسي، ولن تسمح لهم أيضا بتأسيس جماعة دعوية، وبعد أن وصلت للسلطة حافظت على سريتها ورفضت أن تحصل على رخصة قانونية، واعتبرت نفسها فوق الدولة التي يرأسها مندوب الجماعة في مؤسسة الرئاسة، في مشهد غير مسبوق في تاريخ أي بلد آخر في العالم، أي أن يأتي رئيس جمهورية من جماعة سرية لا علاقة لها بقوانين الدولة التي يحكمها. وحين أسست جماعة الإخوان حزبها السياسي ظلت تهيمن على توجهاته وترسم له تحركاته، باعتباره الذراع السياسية للجماعة، فهل سمع أحد في الدنيا عن جماعة دينية لها ذراع أو أرجل أو أصابع سياسية إلا مع الإخوان؟! لقد دخلت الجماعة معارك كثيرة مع مؤسسات الدولة، واتهموا المعارضين بالفلول وتحولوا من جماعة محافظة إلى جماعة ثورية بعد أن وصلوا للسلطة في مشهد غير مسبوق في تاريخ أي ثورة في العالم، فالثوريون يكونون كذلك قبل الوصول إلى السلطة وليس بعدها، والمفارقة أن الإخوان لم يصبحوا ثوارا بعد الثورة مثل البعض، إنما ثوار بعد السلطة، وهو أخطر وأسوأ أنواع الحكم، لأنه يصبح مجرد مبرر لتكريس الاستبداد واعتبار المعارضين من الثورة المضادة، والدولة يجب تطهيرها من الفلول والفاسدين (أى من غير الإخوان)، وهي كلها مسارات بناء الدول المستبدة تحت دعاوى الشرعية الدينية أو الثورية. والحقيقة أن أسوأ ما فعله إخوان الحكم هو فشلهم الذريع في التعامل مع إرث مبارك في الدولة الفاشلة في الأمن والتعليم والصحة والقضاء، وحرصهم على السيطرة والهيمنة على مؤسسات الدولة، لا إصلاحها عبر خطط واضحة عرفت في تجارب النجاح بالإصلاح المؤسسي. إن صيغة الجماعة المهيمنة والمغلقة حين انتقلت إلى المجال السياسي أسست كيانا تابعا اسمه "الحرية والعدالة"، وحين انتقلت إلى الرئاسة قدمت رئيسا فشل في إدارة الدولة وعجز عن أن يقنع هو وجماعته مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة، بأنه يحترم هذه الدولة وحريص على التمسك بمبادئها وقيمها. إن وضعية الجماعة السرية، التي لا تراقب أموالها وميزانيتها مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة، يجب ألا تتصور أنها كانت في وضع يتيح لها أن تصلح أي مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة، وتطالب الجيش بمراقبة ميزانيته، والشرطة بإعادة هيكلتها، والإعلام بالالتزام بميثاق الشرف الصحفي، فهي من الأصل جماعة غير قانونية لن تقبل منها الدولة أي دعاوى للإصلاح، لأنها استقبلت رسائلها بأنها مجرد دعاوى للسيطرة والهيمنة وليس الإصلاح. لقد اعتبر قطاع واسع من المصريين أن هناك كيان الإخوان في مواجهة دولة مصر، وهناك نظام الإخوان في مواجهة الشعب المصري، وهو حاجز وواقع عمّقه الإخوان كل يوم، وهم متصورون أنهم جماعة ربانية لا بد أن تكون على حق والجميع على باطل. إن الخلل في صيغة الجماعة نفسها وفي بنيتها العقائدية والتنظيمية، وهو ما أنتج فشلهم في الحكم والمعارضة، وإذا لم ير الإخوان، أو بعضهم على الأقل، هذه الحقيقة فإنهم متّجهون إلى انتحار سياسي مؤكد. لقد صدم الإخوان من رفض الدولة لهم وما اعتبروه تآمرا عليهم، ونسوا أنهم أول من أعلنوا كراهيتهم لها ورغبتهم في السيطرة عليها والانتقام منها، وإن تضامن الدولة والشعب عني أن الإخوان كانوا في وضع استثنائي لم تعرفه مصر منذ تأسيس الدولة الحديثة على يد محمد علي (1805)، فالدولة كانت تقف عادة خلف الحاكم، ولو في مواجهة جزء من الشعب، وحين خرج أغلب الشعب ضد حاكم مثل مبارك تخلت الدولة عنه وسقط بسهولة، أما مع مرسي فقد نال الحسنيين رفض الدولة والشعب، وهو مشهد استثنائي على الإخوان أن يبحثوا في دلالاته داخل جماعتهم وفكرها وليس في مكان آخر. نُشر بالمصري اليوم