أحمد عبد المعطي حجازي كذبتان صارختان تُروّج لهما جماعة الإخوان المسلمين بعد أن نجح المصريون في طردها من السلطة بما يُشبه المعجزة، وفي استعادة ثورتهم المغتصبة من أيديهم الملوّثة بالقتل والكذب. الكذبة الأولى أن السلطة التي اغتصبوها سلطة شرعية وصلوا إليها بالطرق الديمقراطية! والكذبة الأخرى أن سلطتهم الشرعية هذه انتزعت منهم بانقلاب عسكري! ويجب أن نعترف بأن الإخوان وجدوا مَن يستمع لهم، ووجدوا في المستمعين مَن يصدّقهم ويُساعدهم في ترويج أكاذيبهم في الداخل والخارج. في الخارج -وبالذات في أوروبا الغربية بثقافتها الديمقراطية العميقة وتجاربها وتقاليدها العريقة- نرى الألمان يُسارعون فيصرّحون على لسان وزير خارجيتهم بأن ما حدث في مصر فشل كبير للديمقراطية! وقريب من هذا تصريح وزير الخارجية البريطاني وأقرب إلى الاعتدال تصريح الرئيس الفرنسي، الذي لم يحكم فيه على ما حدث بصراحة، وإنما دعا للعودة إلى الديمقراطية. وقد تابعنا تصريحات الأمريكيين الذي تردّدوا فيها بين موقفهم الداعم للإخوان، وبين الواقع الجديد الذي صنعه المصريون في الأيام الماضية، ومِن المفهوم أن تتشابه مواقف الحكام الأتراك والإيرانيين والتوانسة وبعض الأفارقة، مع مواقف الإخوان والأمريكيين والأوروبيين من هذه التطوّرات التي شهدتها مصر في الشهور الأخيرة، وانتهت بعزل الرئيس الإخواني، وإقامة سلطة انتقالية تصحّح المسار وتفتح الطريق لتحقيق مطالب الثورة. فإذا تركنا الخارج وعدنا إلى الداخل؛ فسوف نرى أن الإخوان خسروا في الفترة القليلة التي قضوها في السلطة كثيرا مما كان لهم من رصيد شعبي، اكتسبوه بقدرتهم على استغلال العواطف الدينية لدى عامة المصريين، وبما لاقوه في العهود الماضية من اضطهاد أثار التعاطف والإعجاب، حتى استولوا على السلطة وكشفوا فيها عن وجههم القبيح؛ فخرج المصريون بالملايين يطالبون بعزل الرئيس الإخواني، ويهتفون بسقوط حكم المرشد. وقبل أن ينجح المصريون في عزل الرئيس نجحوا في طرد الإخوان من النقابات والمؤسسات المختلفة التي كانوا يُسيطرون عليها، كما ظهر في الانتخابات التي جرت في الشهور الماضية، لقد خسروا معظم ما كان لهم مما اكتسبوه قبل أن يصلوا إلى السلطة وبعد أن استولوا عليها، لكنهم ما زالوا محافظين على تنظيماتهم، وعلى علاقتهم العضوية بالتنظيمات والجماعات الشبيهة بهم، فإذا كانت مذاهب هذه الجماعات ومصالحها ومناوراتها لا تتفق على الدوام؛ فالدولة الدينية المستبدة التي يرفع الإخوان شعاراتها هي الدولة التي يسعى السلفيون وأمثالهم لفرضها على المصريين، وضمن هذه الجماعات ومَن يقفون بالقرب منها تروج أكاذيب الإخوان عن سلطتهم الشرعية وديمقراطيتهم، وعن الانقلاب العسكري الذي انتزع منهم السلطة! هل كانت سلطة الإخوان سلطة شرعية؟ وهل حصلوا عليها بالطرق الديمقراطية؟ وهل فَقَدوها بانقلاب عسكري أم بثورة شعبية لم يرَ العالم لها مثيلا؟ لقد بادر الأوروبيون والأمريكيون وآخرون غيرهم فأجابوا عن هذه الأسئلة الجواب الذي عرضناه وهذا حقّهم، فالديمقراطية قضية البشر أجمعين، لكن حقنا في المقابل أن نطالبهم بأن يكونوا أكثر موضوعية، وأن يتعلّموا منّا كما نتعلّم منهم، وألا يبنوا أحكامهم على ما يعرفونه مِن مقدّمات بسيطة وأفكار مجرّدة، وأن ينظروا لتجربتنا في حركتها الحية وأهدافها الثابتة والمتغيّرة، وتفاعل عناصرها ومكوّناتها وما يمثّله كل عنصر فيها وما يؤديه. هكذا لا يصحّ الحكم على ما حدث في يونيو ابتداءً من يونيو، أو مِن التسليم بوجود رئيس منتخب طالب المصريون بعزله، ووقف الجيش إلى جانبهم، وإنما تكون البداية بالسؤال عن الطريق التي سلكها هذا الرئيس وجماعته للوصول إلى السلطة! لقد وصل الرئيس المعزول للسلطة في أعقاب ثورة لا تربطه بها علاقة خاصة، تعطيه مكانا متميّزا فيها أو تجعله ممثّلا لها أو متحدّثا باسمها معبّرا عنها؛ فالرئيس المعزول عضو في جماعة تعتبر النهضة المصرية الحديثة كلها خروجا على الإسلام وتسعى لهدمها، وتنقض المقدّسات الوطنية بالمقدسات الدينية. فالاستقلال الوطني ليس هو غاية الإخوان، ولهذا يهتفون: "الله غايتنا والقادة السياسيون ليسوا زعماء الإخوان وإنما الرسول زعيمنا"، والدستور الديمقراطي الذي يجعل الأمة مصدرا لكل السلطات ويؤسّس الحقوق والواجبات على العيش المشترك في وطن واحد، وليس على العقائد الدينية المتعدّدة والمذاهب المختلفة، هذا الدستور لا يريده الإخوان وإنما القرآن عندهم هو دستور المسلمين، إذن فالإنجيل دستور المسيحيين، وإذن فالشعب شعبان، والوطن وطنان، وإذن فالدولة المدنية وَهْم، والديمقراطية سراب؛ فهل يكون الإخوان المسلمون بهذه الأفكار الهدّامة وهذه الشعارات المضللة هم المؤهلون لتمثيل ثورة يناير التي قامت ضد الديكتاتورية والانفراد بالسلطة، وطالبت بالحرية والعدالة الاجتماعية؟ لا يستطيع أحد أن يرى أي علاقة بين شعارات يناير وشعارات الإخوان، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الإخوان تعاونوا مع النظام الذي أسقطته الثورة، وعقدوا معه الصفقات، وأنهم فوجئوا بالثورة التي اشتعلت بسرعة، واندلعت بسرعة ونجحت في إسقاط رأس النظام دون أن يكون من ورائها تنظيم يملأ الفراغ ويدير شئون البلاد، إلا المجلس العسكري الذي وقع تحت ضغوط داخلية وخارجية انتهت بتسليم السلطة للإخوان، الذين أنهوا الصفقة لصالحهم بعد أن لوّحوا باستخدام العنف، واستطاعوا أن يتفاهموا مع الأمريكيين والإسرائيليين ويكسبوا تأييدهم. وهكذا رسمت الخطط التي قصد بها تسليم السلطة للإخوان، وتوالت الإجراءات لتنفيذها عن طريق انتخابات أجريت في مناخ مواتٍ للإخوان، وروعي في تحديد موعدها أن تسبق وضع الدستور ليتمكن الإخوان الفائزون فيها من اختيار اللجنة التي ستكلف بوضعه على النحو الذي يتيح للإخوان أن يجسّدوا فيه أفكارهم، ويؤيّدوا سلطتهم التي سيصبح الخروج عليها خروجا على الإسلام. ونحن نعرف بعد ذلك أن الانتخابات البرلمانية أجريت على أساس قوانين مخالفة للمبادئ الدستورية المستقرة، ولهذا حكمت المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، فإذا صح أن الانتخابات الرئاسية قد برئت من هذه المطاعن وهو أمر مشكوك فيه، فقد فاز المرشح الإخواني بفارق بسيط، كما أن الذين أعطوه أصواتهم في الانتخابات سحبوها خلال العام الذي مرّ على انتخابه ولم يحقّق فيه شيئا مما وعد به، وإنما كان همّه أن يستأثر هو وجماعته بكل شيء، ويجمع في يده كل السلطات، ولو خرج على كل المبادئ وتجاوز كل الحدود وأعلن الحرب على الجميع، رجال السياسة، ورجال القضاء، ورجال الإعلام، والصحفيين، والمثقّفين، والأزهر الشريف والكنيسة المصرية الشامخة. وقد تجمّعت ردود الفعل وتمثّلت في حركة تمرد التي أطلقت الشرارة الأولى في ثورة يونيو المجيدة، ووحّدت المصريين كما لم يتوحّدوا من قبل، وطالبت بعزل الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهو المطلب الذي وقفت إلى جانبه القوات المسلحة بعد أن بدا من تصريحات الإخوان وتحركاتهم خوفهم وتشبثهم بالسلطة، واستعدادهم للبقاء فيها بأي ثمن، ولو كان الثمن الزجّ بالبلاد في حرب أهلية اعتقدوا أنهم قادرون على كسبها لأنهم في السلطة، ولأن الملايين الثائرة ضدهم لا تملك ما يملكون من وسائل القتل والقمع والإرهاب. هل يكون هذا الذي صنعه الإخوان ديمقراطية؟ أم إنه كان في الحقيقة انقلابا على ثورة يناير واغتصابا لها؟ فإذا اتفقنا على أن حكم الإخوان كان طغيانا صريحا وحربا معلنة على مصر والمصريين، فهل كانت الثورة التي أسقطت الإخوان انقلابا عسكريا؟ لقد شهدنا جميعا وشهد العالم كله معنا أن ما حدث في مصر كان ثورة شارك فيها ملايين المصريين بصورة لم تعرفها مصر ولم يعرفها العالم من قبل، واستخدموا فيها كل ما وصلوا إليه من طرق سلمية للتعبير عن رفضهم للسلطة الإخوانية القائمة، التوقيعات، والاعتصامات، والتظاهرات، ليس في مكان واحد بل في كل مكان في مصر، وليس في يوم واحد بل في أيام عديدة متوالية، فهل نسمّى هذا انقلابا؟ بل هي ثورة شعبية لا شك فيها. هذه الثورة قامت ضد رئيس منتخب؟ نعم.. ولكن هذا الرئيس "المنتخب" لم يترك فرصة يعتدي فيها على حقوق الشعب إلا وانتهزها، كيف لا يحقّ للمصريين أن يثوروا عليه؟ اقرأوا معي هذه المادة الخامسة والثلاثين من الدستور الذي أصدره الثوار الفرنسيون عام 1793: "إذا انتهكت السلطة القائمة حقوق الشعب؛ فللشعب ولكل مَن يمثّله حق مقدّس في إسقاط هذه السلطة، ومِن واجباته الضرورية أن يسقطها". صحيح أن تجارب الماضي عندنا وعند غيرنا تثير القلق إزاء التدخل العسكري، لكن المكان الذي يحتله الجيش في الكيان الوطني المصري مكان محوري، ونحن نعرف الدور الذي لعبه الجيش في ثورة عرابي، والدور الذي لعبه الضباط الأحرار بعد ذلك، فإذا كان العرابيون قد أفرطوا في التدخّل حتى انتهى الأمر بالاحتلال البريطاني، وإذا كان الضباط الأحرار قد انفردوا بالسلطة وأداروا ظهورهم للديمقراطية، حتى وقعت هزيمة 1967؛ فقد وجد الجيش في ثورة يونيو المجيدة فرصة يجدّد فيها ولاءه للشعب ويثبت انحيازه للديمقراطية. فليست الديمقراطية إلا الامتثال لحكم الشعب... نشر بجريدة المصري اليوم.