سالي عادل أشارت إلى سائق التاكسي أن يتوقف، فالتقط ذاك أنفاسه وكتم في نفسه عبارة: "أخيرا!". ثم أخبرها عن قيمة العداد وأنزلها على رأس الشارع. لم تأبه للضباب، ولم تحاول أن تلقي بالا لعراك القطط المحتد، لم تنتبه لخلوّ الشارع من المارة ومن كل مظاهر الحياة، وكل ما حاولت فعله: ألاّ تتعثر بينما تتقدم في الضباب. وحين وصلت إلى باب صالون التجميل، أمسكت به وصكته خلفها في عنف، لم ترجف الضربة بدن الخبيرة الشمطاء التي جلست تنفث دخانها في تبلد، لم يلفت انتباهها غضب العميلة، ولم تحاول حتى أن تصغي لعبارات الاتهام التي تلقيها: - أنتِ مجرمة! أنتِ منحتني رموشا حقيقية وليست اصطناعية. إنها رموش الفتاة النحيلة ذات الشعر الذي يخفي عينيها. إنها الفتاة التي صورتها معلّقة وسط مجموعتك. إنها الفتاة التي صوتها أنين بأذني. ثم تقترب حتى تمسك بياقتها: - وعليكِ الآن أن تعيدي رموشها إليها. تطفئ سيجارتها، وترفع رأسها إليها، تحاول مها أن تبدو ثابتة، لكن كل ذرة من جسدها ترتعش مع كل زفير من السيدة، أو حركة تلقائية أو حتى نظرة عين.. تحاول أن تبعد عن تصوّرها آلاف السيناريوهات المحتملة لوجودها بمفردها مع تلك المجنونة في ذاك المكان النائي، كما تحاول أن تمحو من ذهنها ذاك التأثير الفولاذي لنظرتها الكاسحة، والأنين.. ذاك الأنين الذي يتصاعد يذوّب أعصابها كلها، فيتموّج صوتها إذ تحاول أن تكرر في ثبات: - أقول لكِ أعيدي الرموش الآن. تتأنى خبيرة التجميل للحظة، قبل أن تتحقق من جودة سمعها: - عفوا، أتقولين بأنكِ تريدين مني أن أعيد الرموش لصاحبت... لا تمهلها: - نعم. فتكمل الخبيرة كأنما لم تسمعها: - تقولين بأنك تتخلين عن رموشك من أجل أن تعيديها لصاحبتها الأصلية، تقولين بأن أحمل مقصّي وأجتز أطراف جفنك برموشها ثم أحمل اللاصق وأثبتها إلى عينيها.. تتهاوى إلى مقعد: - ما الذي تقولين؟! تقف الخبيرة أمامها، تتناول خصلات شعرها وترصّها في تسريحة سريعة لم تستغرق ثانية، ثم ترفع المرآة أمام وجهها، وتقول: - تريدين أن تصبح هذه القَصّة -إلى مدى الحياة- قَصّة شعرك؟ تتأمل مها قصتها الجديدة، تتأمل بصعوبة شعرها المرسل من فوق جبينها ليخفي عينيها، ترفع عينيها تحدّق في المرأة من خلف القُصّة: - لماذا تفعلين هذا؟ تبسط يديها في بديهية: - من أجل الجمال! ألم تقصدي -منذ البداية- خبيرة تجميل؟! - تقتلعين رموشا حقيقية من أجل الجمال؟ - أخبرتك أن موادي كلها أصلية. ثم تزفر وتقول: - تعالي، تعالي.. تقيمها من يديها وتقودها إلى الغرفة الداخلية التي تعلوها لافتة: "قسم المحجبات"، تفتح الباب فتتصاعد أصوات قطط توحشت من علك اللحم النيء، تزيح الفتاة الشعر عن جبينها وتبصر القطط التي تراصت على حواف النوافذ، تقرقر في رضا، أو تموء طلبا للمزيد، أو تتعارك من أجل السطو على قطعة زميل.. تزيح الخبيرة حوض غسيل الشعر جانبا، ومن بقعة بالأرض أسفل منه، تفتح بابا صدئا نحو القبو. تهب رائحة عفونة قوية، ويتعالى الأنين دفعة واحدة.. تتدافع العصارات الهاضمة أعلى مريء مها، تتراجع وتركض من فورها نحو الباب، فيما تعالجها الخبيرة بضربة على مؤخرة رأسها.
*** تفيق على صفعة على وجهها.. تنظر بأعين مشوّشة إلى قيودها وإلى الخبيرة بمواجهتها، ومن خلفها وإلى الجانب قليلا، هيئ لها أنها تبصر طيف فتاة نحيلة ذات قُصّة على العينين، خُيّل لها أنها تحتمي بظهر الخبيرة، كما تصورت أن شبح ابتسامة يتلاعب فوق شفاهها، بقدر ما استطاعت أن ترى.. ومن جديد لاح لها سؤال يلوح كلما شاهدت هذه الفتاة: هل هذه الفتاة حيّة، أم أن ما ترقبه هو شبحها؟ ولكن ثمة أشياء أهم، فبالإضافة إلى الأصوات المعهودة، كان هناك صليل مقص يُتَسلَّى بفتحه وإغلاقه مرات، بين يدي الخبيرة رائقة البال الصبورة، قبل أن تزفر بالنهاية وتقول: - والآن، أما زلتِ ترغبين بإعادة الرموش إليها؟ تتحشرج الكلمات في حلق مها: - وهل يجب أن تقصّينها؟ - أوليس القص مقابل اللصق؟! تبتلع ريقها بسرعة، وتقول بجزع: - إذن، لا أريد، لا أريد، أخرجيني من هنا ولن أعود ثانية أبدا. تبتسم الخبيرة في طولة بال: - ليس أنتِ من تقررين. - إذن من؟ من؟ - صاحبة الشأن. ثم تدور بجذعها إلى الفتاة النحيلة: - هل ترغبين يا حبيبتي في استعادة رموشك؟ تضع إصبعا في فمها، تهز جذعها يمينا ويسارا حول محورها، ثم تقول بدلال طفولي: - لا! تهتف مها: - حمدا لله، حمدا لله.. أخرجيني من هنا ولا تؤذيني ولن أخبر أي أحد! تواجهها الخبيرة بنظرة استغراب: - وهل تظنين أني هنا لإيذائك؟ أنتِ لا تفهميني.. إنني كل ما أعشق بالحياة هو الجمال، الجمال الطبيعي تحديدا، وإنني لشديدة الضعف أمام القطع الأصلية: رموش سوداء كثيفة يمكنها أن تأسرني بنظرتها، شعر كستنائي حريري يمكنه أن يطيّر لُبّي، وطابع حسن بني مستدير يمكنه أن يكون قطعة أصلية. - دعكِ من أن ما تقولينه جنونا، ولكن قطعك الأصلية لا تعمل جيدا، رموشك أفقدتني صوابي وأحالتني إلى شبح فائق القدرات، وأحالت أمنياتي إلى لعنات. - هذا غير عادل! قالتها بعصبية: - نعم.. هذا غير عادل، ما ذنبي أنا إن كان لبعض القطع إرادة خاصة بها، أو قدرات خارقة، أو طاقات كامنة تتفجر لدى ملامستها جسد عائل جديد.. لا تنكري أننا البشر معجزة القدرة الإلهية، ولا تنسي أن الكثير من القطع تكون ل.. موتى! تقدّر مها أن الوقت قد حان لإجابة سؤالها، تنظر في شجن إلى صاحبة الرموش وتقول: - وهل هي منهم؟ تقوم الخبيرة، تتجه إلى ركن القبو، تنفض ذرات تراب عن صناديق مكوّمة، تزيح بعضها وتبحث في البعض قائلة: - ستعرفين حالا. تختلس مها النظر إلى قناني وبرطمانات تزيّن الأرفف على طول الجدران، ثم تعود فترقبها متسائلة: - متى؟ تستخرج الخبيرة بضع آلات، ثم تستدير لمواجهة مها: - حين تصيرين مثلها. تتسع عين مها ذعرا، تصيح فورا: - قالت إنها لا تريد رموشها، قالت إنها لا تريد رموشها! تقترب الخبيرة فتجلس عند قدمي مها، التي تهتز في موضعها اهتزازات للخلف، فيما تقول الخبيرة: - صحيح، ولكن لكل شيء مقابل.. ثم تلتمع عينها إذ تنظر إلى أنامل مها التي تتقافز في قيدها إلى مسند المقعد، تتناول كماشة وتقول: - ومن حسن الحظ أنكِ تملكين مجموعة أصلية من الأظافر! وبينما تتناثر الدماء، وترتص الأظافر في الإناء، تحتبس أفكار مها لحظتها في فكرة واحدة يتعلق بها مصيرها كله، لم ترغب في حياتها أو سترغب في معرفة أمر كما رغبت في تلك اللحظة في إجابة سؤالها المُعلّق: هل كانت صاحبة الرموش المقصوصة حيّة أم شبحا؟! تمت الحلقات السابقة: سلسلة قصص الرعب.. رموشها الساحرة (1) سلسلة قصص الرعب.. رموشها الساحرة (2)