أ ش أ يوافق اليوم الذكرى ال46 لعدوان عام 1967 الذي شنته إسرائيل على عدة جبهات عربية، ومن بينها هضبة الجولان بسوريا وسيناء بمصر، كما أكملت إسرائيل من خلاله احتلال ما تبقى من أراضي فلسطين، لتستكمل بذلك مشاريع الاحتلال التوسعية وأطماعها الاستعمارية التي لم تتوقف منذ النكبة في عام 48 مرورا بالنكسة، وحتى يومنا هذا يستمر استفحال مشاريع الاستيطان والتهويد، ويثبت يوما بعد يوم أن ما يجري الآن في الضفة الغربيةوالقدس لا يختلف في شيء عما جرى في أراضي 48، وأن الاحتلال تحوّل إلى نظام الفصل العنصري. "أبد الدهر سنبقى صامدين مرابطين، لا يثنينا شيء ولا يرهبنا بطش جنود العدو، وسنبقى على هذه الأرض، فهي وطننا، وهي أرض أجدادنا من قديم الأزل، وحتى إن بقينا تحت أرضها، فتلك هي إرادة الله، وليس هناك مفر من إرادة الله". كانت تلك الكلمات هي صياغة للعديد من الأجوبة التي رددها سكان مدينة القدسالمحتلة، تزامنا مع الذكرى ال46 لاحتلال المدينة منذ عام 1967، حيث يستمر أهالي المدينة القديمة في معاناتهم اليومية منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لها، وفرض القيود على تحركات سكانها المقدسيين، وإقامة الحواجز، والسماح لليهود المتطرفين وغيرهم من المنظمات والحركات الصهيونية، باقتحام باحات المسجد الأقصى المبارك لأداء طقوسهم التلمودية هناك. فالمدينة تعاني حصارا خانقا على كل المستويات منذ احتلالها عام 1967، ليس فقط على المستوى الأخلاقي والديني والاجتماعي، ولكن أيضا على المستوى الاقتصادي، حيث تعاني المدينة من حالة ركود شديدة وكساد كبير في أسواقها نتيجة لممارسات العزل والتفرقة بين قاطنيها. ولم تستثن الأماكن المقدسة بالمدينة -وبخاصة المسجد الأقصى- من هذه الممارسات المتغطرسة، التي قد تحول في كثير من الأحيان دون دخول بعض المسلمين، ممن لا يحملون هويّات خاصة بالدخول إلى القدس، للصلاة في المسجد الذي هو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وهو يحمل مكانة خاصة في قلب كل مسلم. وتسرد إحدى المرابطات في المسجد الأقصى، المعاناة التي يلاقونها يوميا في الدخول إلى عملهن بالمسجد، وتقول: "اليهود يعرقلون دخولنا للمسجد، ويتعمدون في الكثير من الأحيان سحب هوياتنا حتى نضطر إلى الذهاب لأقسام الشرطة الإسرائيلية لأخذها". وتقول مرابطة أخرى أيضا إن هناك عددا كبيرا من الموظفين العاملين في المسجد محظور عليهم دخول المسجد لمدة ستة أشهر، أو الاقتراب منه لمسافة 100 متر، وذلك على خلفية قيامهم بمنع بعض المستوطنين من أداء الطقوس التلمودية في باحات المسجد الأقصى، ومن بينهم الشيخ ناجح بكيرات -مدير المسجد الأقصى- والحارس ناصر أبو قويدر وغيرهما. وتساءلت قائلة: "هل يستطيع هؤلاء العساكر منع الحاخامات من دخول أماكن عبادتهم؟ فبأي قانون في العالم يجري ذلك؟". ودعت من جانبها، كل شعوب العالم العربي والإسلامي إلى الوقوف بجانب القضية العادلة للمسلمين وعدم استفزاز مشاعرهم بانتهاك حرمة بيوتهم وحرمة المسجد المبارك. وتقول مرابطة أخرى واسمها ر.ع: "لقد مرت علينا أوقات عصيبة كثيرة شعرنا فيها بالخوف والرعب والإرهاب"، وأضافت أنها شاهدت صباحا، وهي في طريقها للعمل، قوات الاحتلال الإسرائيلي وهى تقتاد فتيانا بعمر 14 أو 15 عاما وهم مقيدون وبملابس نومهم، فتساءلت: "أين حقوق الطفل التي يحكون عنها؟!"، وتابعت: "لم يبق لنا سوى الدفاع عن هذه البقعة الطاهرة التي نفديها بأرواحنا.. حتى ولو لم يبق سوى النساء.. سنظل ندافع عنها". وتقول أيضا إن المسجد لا تُغلق أبوابه إلا بعد أن يأتي جنود الشرطة الإسرائيلية ليخرجوا جميع من في المكان، ويتأكدون من فراغ المسجد، ثم يقومون هم بغلق الأبواب بنفسهم. أما عن سكان المدينة نفسها، فهم يتعرضون لكل أنواع الابتزاز من جانب سلطات الاحتلال التي تفرض عليهم ضرائب باهظة (تصل إلى الآلاف من الشيكلات)، ويكون عقاب من لا يستطيع أن يدفع هذه المبالغ أن تصادر ممتلكاته أو تقيد حركته أو تصدر بحقه أوامر اعتقال بزعم امتناعه عن أداء هذه المدفوعات. وتقول ساكنة أخرى من سكان القدس إنها ظلت تدفع غرامة مالية تقدر ب55 ألف شيكل، فرضتها قوات الاحتلال على أمها، بزعم أنه قيمة استهلاكها من المياه، وحتى بعد وفاة والدتها تظل تدفع المبلغ المتبقي عليها، بل وأنهم يضاعفون لها قيمة المبلغ المتبقي من ستة آلاف شيكل إلى 60 ألف شيكل. وتقول إحدى سكان القدس اسمها ت.ط: "أذهب لزيارة والدة زوجي في سوق البلدة القديمة -التي يقطنها يهود وعرب معا- وهي سيدة عجوز، وإذا ما رغبَت في إصلاح أي عطل في منزلها كدرجات السلم أو غيرها، فإن قوات الاحتلال يمنعونها من القيام بذلك". وتتحدث سيدة أخرى من سكان المدينة وتقول: "لمجرد أنني أمتلك بيتا في المدينة، فأنا مطالبة بأن أدفع سنويا عشرة آلاف شيكل، وإذا لم أدفع هذا المبلغ، فهم (قوات الاحتلال) يمنعوننا من العبور إلى أي منطقة أو السفر لخارج الضفة، حيث تكون أسماؤنا مسجّلة على المعابر وقد أتعرض للتهديد بالطرد من المنزل أو مصادرته". وتطرح هذه الساكنة سؤالا واحدا، وتقول إنها لن تجيب عليه، ولكنها تريد إجابة من أي شخص في العالم: "إذا جاء شخص ليطردك من بيتك ويشرّد عائلتك، تجلس معه وتتفاوض على ماذا؟!". وبخلاف ذلك، يحكي التجار وأصحاب المحال في المدينة عن ركود أسواقهم بسبب اشتداد موجة الغلاء -الذي يرجعون أسبابه إلى مضاعفة الأسعار من جانب اليهود حيث يعتبرونها بلدا سياحيا- وخصوصا على المنتجات التي تدخل لتباع في المدينة. ويوضح التجار أن بعض المحلات تغلق أبوابها من الساعة الثامنة مساء بسبب عدم وجود زبائن، حيث تصبح شوارع المدينة شبه خالية، ولا يجد التاجر أمامه سوى أن يغلق الأبواب ويذهب إلى بيته. أما حال السياحة، التي كانت في السابق تعد أحد مصادر الرواج التجاري في المدينة، باعتبار أنها مليئة بالأماكن الدينية المقدسة القديمة والأثرية، يقول البعض إن المجموعات السياحية التي تأتي للمدينة، وتكون في الأغلب عن طريق شركات سياحية إسرائيلية ويعمل أغلبية المرشدين السياحيين فيها من الإسرائيليين، يحملون انطباعا من المرشدين الذين يصحبونهم أن العرب في المدينة يستغلونهم ويبيعون لهم بأسعار باهظة، أو يوجهونهم للشراء من محلات اليهود في القدسالغربية. فإلى جانب ممارسات التعنت والعرقلة والتقييد على سكان القدس في وسائل معيشتهم، تقر المحاكم الإسرائيلية قانونا يعرف باسم "قانون مصادرة أملاك الغائبين" الذي تم تفعيله عقب حرب 1967، وهو يمكن سلطات الاحتلال من حرمان الفلسطينيين، من سكان الضفة الغربية حاليا، من ممتلكاتهم بمدينة القدس برغم أنهم لم يتركوها. وبموجب القانون الذي تم سنه عام 1950، فإن "كل من يمكث في دولة عدو أو في منطقة خارج سيطرة إسرائيل فهو يعتبر غائبا، وتنتقل أملاكه إلى الوصي على أملاك الغائبين". ويقول محمد أبو ناب، وهو من سكان مدينة القدس، إن اليهود يعرضون على القدسيين بيع منازلهم أو محالهم مقابل الحصول على ملايين الدولارات، هناك من يقبل وهناك من يرفض، لكن إذا وقع البيت أو المحل في منطقة قريبة من مستوطنة أو غير ذلك، تظهر الحجج الواهية بأن المنزل أو المحل يقع خارج نطاق التنظيم بالمدينة ويمكن أن يصدر بحقه قرار إزالة أو هدم، وحتى الهدم يكون في بعض الأحيان على حساب المتضرر نفسه، وذلك هو الحصار الاقتصادي بعينه. ويضيف أبو ناب أن نسبة الفقر بالمدينة تعدت 60%، فالغلاء والاستغلال والضرائب التي يفرضها الاحتلال تخنق المدينة اقتصاديا من أجل تصفية سكانها من هويتهم، بل ويصل الأمر إلى تقديم المساعدات والتسهيلات لبعض الأشخاص الذين يبدون استعدادا لبيع منازلهم للهجرة إلى خارج البلاد، وقد تصل قيمة المنزل إلى عشرة ملايين دولار. ويقول م. أبو محمد، من سكان بيت حنينا الواقعة في نطاق مدينة القدس، إنه تعرض لهدم منزله ثلاث مرات، وأنه في كل مرة لا يجد شيئا أمامه ليفعله سوى المطالبة بالتعويض، ويضيف حتى لو حصلت على هذا التعويض فهو لا يعوضنا شيئا عن الذل والمهانة التي نلاقيها في التشرد من منزلنا. وقد سعت إسرائيل منذ احتلالها للمدينة إلى استكمال المخطط الاستيطاني الهادف للسيطرة الكاملة على مدينة القدس، حيث عمل على تحقيق ذلك من خلال توسيع ما يسمى ب"حدود القدس شرقا وشمالا"، وذلك بضم مستوطنة "معاليه أدوميم" التي يقطنها نحو 20 ألف نسمة، كمستوطنة رئيسية من الشرق، إضافة إلى المستوطنات العسكرية الصغيرة مثل "عنتوت"، و"ميشور"، و"أدوميم"، و"كدار"، و"كفعات بنيامين" من الجهة الشرقية، "وكخاف يعقوب"، و"كفعات زئييف"، و"كفعات حدشا"، و"كفعات هاردار" من الشمال. مما أدى إلى مضاعفة عدد المستوطنين ليصل عددهم في القدسالشرقية وحدها إلى نحو 200 ألف مستوطن، وفي نفس الوقت قللت نسبة السكان العرب الفلسطينيين. وتشير تقارير إحصائية إسرائيلية إلى أن الإسرائيليين عاشوا في الضفة الغربية بمستوطناتهم أكثر مما عاشوا في إسرائيل المقامة على الأراضي المحتلة عام 1948. ووصل عدد المستوطنين الذين يعيشون خارج الخط الأخضر الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي المحتلة عام 1967 نحو 550 ألفا، بينهم 200 ألف يعيشون في شرقي القدس وحدها. وكان من الأساليب المبتكرة لسلطات الاحتلال من أجل تهويد مدينة القدس إصدار ما يسمى ب"قانون التنظيم والتخطيط"، الذي انبثق عنه مجموعة من الخطوات الإدارية والقانونية المعقّدة والتعجيزية في مجالات الترخيص والبناء، بحيث أدى ذلك إلى تحويل ما يزيد عن 40% من مساحة القدس إلى مناطق خضراء يمنع البناء للفلسطينيين عليها، وتستخدم كاحتياط لبناء المستوطنات كما حدث في جبل أبو غنيم، وقد دفعت هذه الإجراءات إلى هجرة سكانية عربية من القدس إلى الأحياء المحيطة بالمدينة، نظرا إلى سهولة البناء والتكاليف. هكذا هي حال سكان هذه المدينة المقدسة، التي كانت مسرحا للأنبياء على مر العصور، وزهرة للمدائن، وفي أرضها دفن الكثير من الأنبياء، وشهدت أسوارها الكثير من المعارك التي خاضها المسلمون دفاعا عن قدسيتها، المدينة التي تحمل اسما من أسماء الله الحسنى، وسميت كذلك ببيت المقدس الذي هو "بيت الله".