كنت اليوم في ضيافة لوسي! لوسي هي الجدة الكبرى للبشر.. لا نعرف حتى اليوم -إنثروبولوجيا- جدة أكبر منها، وهي هنا في إثيوبيا. تسكن لوسي في المتحف القومي الإثيوبي الذي زرته اليوم. عندما تدخل المتحف القومي الإثيوبي، ستلاحظ أن له حديقة ضخمة رائعة بها العديد من التماثيل والمعروضات الأثرية في نوع من العرض المفتوح -مثل معظم المتاحف في الحقيقة- ثم بعد ذلك ستدخل المبنى الرئيسي للمتحف. الغريب هنا، وفي معظم الأماكن التي تُدفع تذاكر لزيارتها في إثيوبيا، هو موضع مكتب قطع التذاكر، الطبيعي في أي متحف في العالم هو أن يوجد المكتب على الباب الخارجي لتدفع التذكرة قبل الدخول، ثم تعطي التذكرة لفرد أمن يتأكد منها على البوابة قبل أن تدخل. لكن هنا دخلت من البوابة الخارجية وشاهدت كل القطع المعروضة في الحديقة وصورتها، ثم دخلت المتحف نفسه، حيث وجدت مكتب قطع التذاكر يقع بالداخل بعد الباب الداخلي! يمكنك -إن كان الوازع الضمائري لديك ليس من النوع المتيقّظ وإذا كان المكان مزدحما- أن تتجاهل مكتب التذاكر وتتسلل إلى الداخل دون أن تدفع وفي الغالب لن ينتبه إليك أحد! نفس هذه المشكلة تتكرر في معظم الأماكن في إثيوبيا! المتحف ليس متخصصا في حقبة معينة أو نوع معين من الآثار، وإنما هو "خلطبيطة" كبيرة من أشياء قيمة جدا كحفريات عمرها ملايين السنين، وأشياء أقل قيمة بشكل كبير كلوحات فنية حديثة لبعض الفنانين الإثيوبيين. تيجان وملابس وكراسي الإمبراطور هيلاسلاسي، أزياء شعبية، صور قديمة، لوحات وتماثيل معاصرة، سيارة الإمبراطور منيليك الثاني، مدافع وأسلحة قديمة.. إلخ. هناك لوحة متميزة تحكي بالتفصيل -على طريقة القصص المصورة- قصة ملكة سبأ مع الملك سليمان. من شبه المتفق عليه أن مملكة سبأ تقع في اليمن، لكن الإثيوبيين يعتقدون أن ملكة سبأ كانت إثيوبية وأنها أنجبت من سليمان، وأن ملوك إثيوبيا الذين حكموها عبر التاريخ هم من سلالة سليمان وملكة سبأ. يذكر العهد القديم أن ملكة سبأ سمعت عن حكمة سليمان فأتت إليه في أورشليم بقافلة عظيمة محملة بالذهب والجواهر لتمتحنه بمسائل، ولما جاوبها بحكمة عن كل ما سألته عنه، مدحت حكمته وأهدته ذهبا كثيرا، وهو أيضا أهداها هدايا كثيرة حسب كرمه. لا يذكر العهد القديم بعد ذلك شيئا عما حدث للملكة بعد هذه الزيارة. يذكر القرآن قصة مختلفة قليلا، حيث سليمان هو الذي أرسل في طلب ملكة سبأ بعد أن سمع عنها من الهدهد، وقد أرسل يدعوها هي وبلادها إلى عبادة الله، أرسلت ملكة سبأ إلى سليمان هدية لم يقبلها وأراد محاربة بلادها، لكن عفريت من الجن أتى له بعرشها، فلما رأت مدى عظمة عرش سليمان أسلمت. لا يذكر العهد القديم ولا القرآن اسما لهذه الملكة، أما اسم بلقيس الذي اشتهرت به فقد ورد في كتابات العرب. أما الإثيوبيون فيعتقدون أن ملكة سبأ كانت ملكة إثيوبية واسمها ماكيدا، وأنها قضت تسعة أشهر عند سليمان، وفي طريق عودتها إلى إثيوبيا أنجبت طفلا من سليمان اسمه منليك، والذي يعني ابن الحكيم، وهو الملك الذي تنحدر من سلالته ملوك إثيوبيا، وعلى هذا ملوك إثيوبيا هم أحفاد سليمان. أما الإمبراطور هيلاسلاسي الشهير فهو الملك رقم 225 من الزيجة التي تمت بين سليمان وماكيدا. النسخة الإثيوبية من القصة مذكورة في كتاب مجد الملوك، وهو كتاب قديم يتجاوز عمره السبعمائة عام يحكي باللغة الجعزية -اللغة الإثيوبية القديمة- قصص ملوك إثيوبيا من سلالة سليمان، ويعتقد الإثيوبيون في قدسيته. عموما لم يعثر علماء الآثار والحفريات على أي دليل أثري بخصوص ملكة سبأ، يعتقد بعض علماء الآثار أن حضارة سبأ امتدت في بعض الفترات إلى شمال إثيوبيا حيث أنشأ السبئيون مستعمرات لهم هناك، بينما يعتقد البعض الآخر أن مملكة سبأ كانت تضم كلا من اليمن وإثيوبيا. على أن أهم أقسام المتحف وأعظمها قيمة هو قسم الإنثروبولوجي، الذي يحتوي على حفريات أشباه البشر الأوائل Hominids، أو تلك الحلقة الوسيطة المفقودة بين الإنسان والقرد، أهم حفريات أشباه البشر وجدت في إثيوبيا، لذا يعتبر الكثير من العلماء أن إثيوبيا هي مهد البشرية، بالطبع أهم حفرية من هذا النوع هي لوسي. عاشت لوسي منذ 3.2 مليون سنة، وهي عبارة عن مجموعة من العظيمات تمثل حوالي 40% فقط من الهيكل العظمي، تم اكتشافها عام 1974 في وادي الأواش في عفار بإثيوبيا، وهي تنتمي إلى فصيلة أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس Australopithecus afarensis وطولها حوالي 1.1 مترا بوزن 29 كيلوجراما وكانت تمشي منتصبة على قدمين. أسماها الفريق البحثي الذي اكتشفها بهذا الاسم تيمنا بأغنية البيتلز Lucy in the sky with diamonds التي كانوا يسمعونها كثيرا في معسكر التنقيب، أجريت مئات الأبحاث على لوسي منذ اكتشافها حتى الآن، حيث تعتبر أهم كشف من نوعه في عالم الإنثروبولوجي. عام 2000 تم اكتشاف هيومانيد أخرى لطفلة من أشباه البشر هي سِلام Selam -والتي تسمى أحيانا "طفلة لوسي"-، ويقدَّر عمرها بحوالي 3.3 مليون سنة، هي أقدم من لوسي بنحو 120 ألف سنة، إلا أن لوسي تحوز الشهرة الكبرى. كان إحباطي لاكتشافي أن لوسي ليست سوى مجموعة من العظيمات المتناثرة كبيرا، ففتر حماسي لأن ألتقط صورة مع جدتي الكبرى. التصوير مسموح به في المتحف بالطبع، وإن كانوا قد نبهوا علينا بعدم استخدام الفلاش ثم لم يراقبونا وتركوا الأمر لضمائرنا. في مصر تم منعي من التصوير في كل المتاحف التي زرتها. لا أدري من العبقري الذي أصدر قرارا بمنع التصوير في كل المتاحف بأنواعها، بل وحتى في المساجد الأثرية والكنائس والمعابد، علما بأنه في اللوفر نفسه -أعظم متاحف العالم- يمكنك تصوير الموناليزا نفسها وبالفلاش أيضا ولن يكلمك أحد!
أديس أباب 9 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: