في مثل هذه الأيام منذ مائة وخمسين عاماً صدر في لندن كتاب مثير أحدث ضجة كبرى في الأوساط العلمية والدينية والفكرية في أوروبا والعالم، كما طرح وبقوة اسم "تشارلز روبرت دارون" الذي يحتفي به العالم منذ عام كامل بمناسبة مرور مائتي عام على ميلاده في 12 من فبراير عام 1908 في بلدة شروزبري الإنجليزية، ليتجدد السؤال الأهم في مسيرة دارون.. هل صحيح أن الإنسان أصله "قرد"؟!! الإنسان كان أصله قرداً.. هذا ما يرد إلى ذهن الجميع عندما نسمع عن نظرية دارون للتطوّر، إلا أن الدكتور إسماعيل سراج الدين -مدير مكتبة الإسكندرية- نفى هذا الاعتقاد خلال المؤتمر الدولي "تراث دارون الحر" والذي استضافته مكتبة الإسكندرية في نوفمبر الماضي بحضور 120 شخصية علمية عالمية من 30 دولة منهم "راندال كينز" أحد أحفاد دارون. وأضاف سراج الدين وقتها أن دارون لم يقُل إن الإنسان أصله "قرد"، وأن نظريته تشير إلى أن الإنسان والقرد لهما أصل واحد وفقاً للتطور الكوني، وتساءل: إذا لم يكن لدينا أصل واحد، فلماذا توجد البروتينات الأربعة الأساسية في الحمض النووى "DNA" لدى جميع الكائنات؟ وبعدها كان هناك تأكيد من عدد من العلماء ومنهم الدكتور نضال جيسون -أستاذ الفيزياء وعلم الفلك بالجامعة الأمريكية في الإمارات- على وجود مشكلة تتعلّق بفهم نظرية التطور في العالم الإسلامي، بحجة تعارضها مع الدين، مشيراً إلى أن الأبحاث أظهرت أن 15٪ من عينة عشوائية في العالم الإسلامي تؤمن بصحة النظرية. ولكن من المهم الآن أن نلقي مزيداً من الضوء على حياة دارون الذي ما زال بعد مرور مائتي عام على ميلاده شخصية مثيرة للجدل، حيث فتح المجال بكتابه "أصل الأنواع" للعديد والعديد من الأبحاث التي أضيفت إلى المكتبة العلمية في مجال علم الأحياء.
كان في دراسته أقرب إلى البلادة الذهنية منه إلى الذكاء من هو دارون؟ ولد تشارلز روبرت دارون في 12 فبراير من عام 1809 في بلدة شروزبري الإنجليزية في أسرة اشتهرت بنزعتها العلمية، سواء من جهة والده روبرت وارنج دارون، الذي كان طبيباً موسراً، أو من ناحية جده إيراسموس دارون الذي كان طبيباً وفيزيائياً وشاعراً وعالماً للطبيعة، ومؤلف كتاب "Zoonomia" الذي تضمّن بذور نظرية التطوّر أو التحوّل التي طوّرها ووضع أسسها فيما بعد حفيده تشارلز دارون. ولم يعرف تشارلز حياة دراسية لامعة بل كان أقرب إلى البلادة الذهنية منه إلى الذكاء والنباهة، لدرجة أن أباه أخرجه من المدرسة قائلاً: ستكون عارًا على نفسك وأسرتك، فذهب لتعلّم الطب، ولم يتحمّل منظر الجراحة دون تخدير، وفي سنة 1827 توجّه لدراسة الدين في كلية المسيح، ليتركها بعد ذلك قائلا إنها ملاذ الفاشلين. وفي التاسعة من عمره أرسل تشارلز إلى مدرسة داخلية بالقرب من بيتهم، وخلال تواجده بالمدرسة حاول الهروب من المدرسة عدة مرات، لكنه كان يعود مساءً في كل مرة. يذكر أيضاً أن نظام التعليم لم يرق لدارون بل كان يكرهه حسب وصفه؛ لأنه كان ينساه مباشرة بعد فترة وجيزة. حياة دراسية مضطربة وفي صيف 1825 تدرّب دارون مؤقتاً في عيادة والده، وفي خريف نفس العام سافر دارون إلى مدينة أيدنبورج لدراسة الطب. كانت جامعة أيدنبورج أحد أرقى الجامعات الأوروبية وقتها، ولكن وجهة نظر دارون للمدرسين في الجامعة كانت مختلفة حيث كان يشوبها التململ. قريباً أدرك دارون بأن مهنة الطب ليست مهنته بعد عمليتين جراحيتين بدون مخدر كما كان دارجاً حينها، فقرر أن يبدأ اختصاصاً آخر, فتعلّم فن التحنيط وتابع بعده علم الحدائق. عاد بعدها تشارلز دارون إلى مدينته خائباً بدون أي شهادة من أي اختصاص يذكر, فأحسّ والده بخيبة أمل كبيرة وخاطبه في إحدى المرات بقوله: "أنت لا تنفع إلا للصيد وملاحقة الكلاب والفئران, ولن تجلب سوى العار لنفسك ولعائلتك". فرغم خيبة الأمل هذه فقد تطلع دارون إلى فرصة أخرى ومع شيء آخر هذه المرة؛ حيث بدأ في التفكير بجدية بمهنة رجل الدين, على أساس أنها مهنة رائجة مع دخل ثابت ومن جهة أخرى لا تحتاج الكثير من وقته. لكن الشكوك التي كانت تملأ صدر الشاب المسيحي دارون جعلته يشك في قدرته على البدء في دراسة اللاهوت, ولكن والده رأى في هذا المجال فرصة لإعطاء ابنه مهنة محترمة ومرموقة في المجتمع الإنجليزي وقتها، لهذا فإن الشاب الذي جلس على مقاعد الدراسة في جامعة كامبريدج بداية عام 1828 كان أبعد ما يكون لطالب علوم الدين العادي، والسنوات الثلاث التي قضاها دارون في كامبريدج سوف تعني الكثير لدارون وللبشرية في المستقبل. وكان يوجد في جامعة كامبريدج أيضاً الكثير من مشاهير علماء الطبيعة والحدائق حينها، وكان من بين أحد أهم الشخصيات التي اهتم بها دارون هو عالم الحدائق والمؤرخ الطبيعي جون ستيفن هينسلوا والذي قام بفتح عيون دارون على علم تاريخ الطبيعة، وبمرور الأيام أصبح دارون الظل الذي لا يفارق أستاذه هينسلوا وأصبح واحدا من أبرز تلاميذته المتميزين والمتابعين لمحاضراته. في أحد الأيام اقترح هينسلوا على داروين أنه بعد أن ينهي دراسته باستطاعته أن يأخذ مكانه على السفينة بيكل والتي ستأخذه في رحلة طويلة حول الأرض, ولم يكن دارون متأكداً من هذا الأمر بعد. وبعد أن أنهى دارون دراسته الدينية بشهادة امتياز في جامعة كامبريدج عام 1831 وحصوله على المرتبة العاشرة مقارنة بزملائه ال178 لنفس السنة، كان على دارون أن يختار بين العمل كرجل دين في مدينته أو الإبحار برحلة حول العالم على متن السفينة بيجل.
استمرت رحلته 57 شهراً جمع خلالها كنزاً من المعلومات الرحلة المثيرة
لم يفكر دارون بالطبع واختار الرحلة، وبعد انتظار لمدة شهرين متتاليين لجو ملائم للإبحار أبحرت بيجل في 27 ديسمبر 1831 وعلى متنها الشاب دارون, وفريق من الباحثين مهمتهم مسح شامل لشواطئ أمريكا الجنوبية، وجزر جالاباجوس البريطانية الغنية بشتى المناظر والتغيّرات التي تختلف فيما بينها بنباتاتها وطيورها وحشراتها. وخلال الرحلة التي استمرت 57 شهراً جمع دارون كنزاً من المعلومات والمشاهدات الحية عن الإنسان في حالته البدائية وعن حياة الحيوانات والطيور والنباتات، فكانت البداية ليكرس حياته نهائياً لعلم الطبيعة، ليعود بعدها إلى لندن مريضاً يلتزم الصمت على نتائج أبحاثه وليطول الصمت 22 عاماً، فضّل خلالها الاحتفاظ بأسرار اكتشافاته وملاحظاته العلمية عن التطوّر والانتقاء الطبيعي، والذي فسّره البعض على أنه خوف من المناخ المحافظ والجمود الديني اللذين كانا مسيطرين وقتها على العلوم الطبيعية، خصوصاً بعد الهجوم الكبير الذي تعرّض له كتاب "إثارات من التاريخ الطبيعي للخليقة" الذي نشره العالم "روبرت تشامبرز" في عام 1844 من دون توقيع، ففضل الهدوء على مواجهة العاصفة.
بعد 22 عاماً من الرحلة قرر الإفراج مضطراً عن نتائج أبحاثه المفاجأة التي فجّرت ثورة دارون في ربيع عام 1858 ألحّ عليه صديقه "لييل" نشر ما توصل إليه من الفروض والملاحظات المؤيدة لنظرية التطوّر، لكنه بقي على حذره، إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان، عندما تلقى بحثاً مبتكراً من العالم الإنجليزي الفرد راسل والاس (والذي جال أيضا برحلة علمية حول العالم) مصحوبا برجاء من دارون أن يقرأ البحث ويعطي رأيه في النظرية التي يتضمّنها، وإذ هي النظرية نفسها التي توصل إليها دارون عن حقيقة التطور، وأمام هذا المأزق اضطر دارون أن ينشر بحثه، فتقدّم به إلى مجمع لنيوس، ولكن على أنها عمل مشترك بينه وبين والاس، إلا أن شهامة والاس دفعته إلى اعتبار دارون سبّاقاً في الوصول إلى نظرية التطور، وبذلك أصبح دارون هو الأب الشرعي لهذه النظرية، فصدر له كتابه "أصل الأنواع" في 24 نوفمبر 1859 بالعنوان الذي اختاره الناشر واشتهر به، فنفدت ال250 نسخة المطبوعة منه فور صدورها. ليشاع منذ ذلك التاريخ الذي صدر فيه الكتاب أن دارون قال في نظريته إن غالبية البشر بالعالم هم من أصل القرود ومروا بمراحل من التطوّر، وأنهم يتسلسلون بحسب قربهم لأصلهم الحيواني فيتدرجون في ست عشرة مرتبة، ويأتي الزنوج، ثم الهنود، ثم الماويون، ثم العرب في أسفل السلسلة، والآريون في المرتبة العاشرة، بينما يمثل الأوربيون (البيض) أعلى المراتب في السلسلة وهي الخامسة عشرة والسادسة عشرة، وأن هناك حلقة مفقودة بين كل من القرد والإنسان. وبالتالي فإن الأجناس في أعلى السلسلة السابقة يكون لديهم القدرة على السيطرة والتسخير للأجناس الأقل في الترتيب في السلسلة، وكلما كان الفارق بينهما في الترتيب كبيراً زادت السيطرة، وطبقاً لذلك يكون الأوروبيون هم أقدر على السيطرة على الزنوج أكثر من قدرتهم على السيطرة على من هم موازون لهم في السلسلة، وأن بعض الشعوب لديها القدرة على الاستعباد وفرض السيطرة بينما تكون الفئة الأخرى قابلة للاستعباد والسيطرة عليها. ولكن بعد مائتي عام من ميلاده ومائة وخمسين عاماً على صدور كتابه، ثبت أكثر من حقيقة تم تشويهها خلال العقود الماضية؛ فلم يكن الإنسان أصله "قرد" أبداً عند دارون فسقطت نظرية دارون بعد اكتشاف الهيكل العظمي في إثيوبيا، والذي يبلغ عمره 4.4 مليون سنة، وهو كائن منتصب القامة قريب من الإنسان الحالي، مختلف عن القردة العليا كالشمبانزي. وظهر أن دارون قال إن الإنسان والقردة العليا تجمعهم فقط صفات مشتركة، ولم يقُل إن الإنسان أصله "قرد"؛ فالجينات مشتركة 99٪، واتضح أننا نحمل دماء قردة البابون "RH" في 85٪ من الأفراد، ونحن والشمبانزي فقط الذين نصاب بشلل الأطفال، هذا فضلاً عن الجوع، والجنس، والأمومة، والخوف، وسائر الغرائز.
لكنه مات قبل أن يرى امتنان العالم وتقديره وتُوفي دارون في التاسع عشر من إبريل عام 1882م، وذلك بعد أن أثار العالَم بنظرياته والتي واجهت المعارضة والرفض من قِبل الكثيرين، وظلت حتى اليوم محلاً للمجادلة والنقاش، ولكنه مات قبل أن يشهد امتنان العالم واعتذار الكنيسة بعد أن هاجمت أفكاره وتأييد العلماء لأفكاره. لكن في احتفالية العالَم بتشارلز دارون يظهر لدينا مشكلة، وهي بالنسبة لنا نحن فالأمر مختلف فالعالم يحتفل بمؤسسي العلم الحديث، ونحن ما زلنا نناقش أفكاراً سلفية في مناقشات سقيمة عاد إلى مناقشتها المسلمون دائماً في فترات انحطاطهم، أما في فترات نهضتهم فهم يوظفون الإيمان لخدمة العلم والبحث ليصبحوا دولة متقدّمة وقادرة على المنافسة.