هذا مقال قد يُثير امتعاض الجانبين هذه المرة، ولكني أكتب ما أراه صحيحا وما أؤمن به دون انتظار استحسان أو استياء أحد. لفت نظري في الآونة الأخيرة تصريحات ومقولات غريبة، وبعضها مريب وبعضها غير منطقي من البعض ممن أعرفهم معرفة شخصية، وممن أعرف مواقفهم وأؤمن بوطنيتهم التي لا جدال فيها ولا يمكن مجرد الإشارة لها. لكن.. طبيعة الكلام كانت غريبة عن طبيعتهم الأساسية، وهو ما ينمّ عن ضرورة الاهتمام بما أثّرت السياسة في نفوسنا، وضرورة وقفة مع الذات توضّح لنا ما اختلط من أمور مهمة ووجب الالتفات لها. كان أول ما لفت انتباهي هو الحديث عن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.. الكثير في عالم الواقع وفيسبوك بدأ يشير إلى خطورة تلك الأزمة التي تقبل عليها مصر، والبعض يشير إلى تصريحات فاروق العقدة -محافظ البنك المركزي- عن دقة موقف الاحتياطي الأجنبي للبلاد. ووسط كل تلك المخاوف من اقتصاد مترنّح.. أجد مَن يقوم بدعوة الناس لسحب مدّخراتها من البنوك خوفا من إفلاس البنوك القادم، والذي سيجعل البنوك تستولي على ودائع المودعين، ولن تكون هناك سيولة كافية. هنا يجب الوقوف.. ما هذا الحديث؟ وما معناه؟ فهو ليس إلا دعوة للجميع بالإصابة بالفزع. كأنك تخبرهم "ستستولي الدولة على تحويش عمركم.. فلتصابوا بالهلع"! وبالفعل لو أصيب الناس بالخوف لن يقيموا الأمور وقتها بالمنطق والعقلانية، بل ستشهد البنوك حالة سحب غير عادية تؤدي لحدوث الأزمة بالفعل! مرة أخرى، كانت عند الحديث عن الوقفة التي نظّمها بعض النشطاء من التيار الإسلامي لإحياء ذكرى سقوط الأندلس.. كان الجانبان شديدي الغرابة؛ فهناك مَن ينادي بحرقة "سنعود" حامل لافتة عليها سيف والشهادة، ومنهم مَن يتوعّد بعودة سلطة الإسلام على بلاد الفرنجة من جديد! يبدو أن ضبط التوقيت التاريخي لديهم أصابه العطل.. ومفهوم الغزو لم يعد واردا الآن بل "سنعود" ينبغي أن يكون التفكير فيها عن طريق وصول الإسلام بالحسنى وبالتقدّم والعمل؛ لنصل للمكانة العلمية المرموقة التي كنا عليها سابقا هذه هي عودة مجد الإسلام الفعلية. وهناك مَن يندد بإحياء الذكرى، موضّحين أن المسلمين احتلوا تلك البلاد وكان من حقّ أهلها الاستقلال، وأنهم لم يشيّدوا حضارة هناك بفضل علمهم، بل بفضل ما اكتسبوه من هذه البلاد، وحان سقوطهم لأنهم كانوا حكّاما ظالمين. التاريخ معروف ولن نغيّر فيه لرغبة لدينا.. معروف أن تلك البلاد قبل الفتح الإسلامي لم تكن تحمل أي تطور علمي، ولكن بالفعل امتزاج العنصرين هو ما دفع لهذه النهضة بالحدوث. كما أن 8 قرون شهدها سكان هذه البلاد لم يشكوا فيها ظلم الحكم الإسلامي هناك، وسقطت الأندلس -كما نعرف جميعا- لضعف الحكام وانقسامهم على السلطة، والظلم الحقيقي هو ما حدث بعد انكسارهم من إجبار الإسبان للسكان على اعتناق المسيحية، أو الرحيل ومحاكم التفتيش التي عرفها التاريخ في هذا الوقت توضّح مصدر الظلم الحقيقي. ولو اتبعنا مبدأ الاحتلال هذا؛ فيجب على الجميع الرحيل عن الأراضي التي احتلوها.. فليس المسلمون فقط هم مَن قاموا بالغزوات، وهو مبدأ خطير؛ لأن سيظهر مَن يقول إنهم احتلوا مصر كذلك، وتبدأ الفتنة المحببة. فليرحل الأمريكان عن أمريكا وليتركوها لسكانها الأصليين من الهنود الحمر النادرين.. وليرحل الأستراليون عن أستراليا وليتركوها لأهلها الأصليين؛ فهذا الحديث لا طائل منه بل ويثير النفوس بلا أي سبب واضح. ولهذا ينبغي أن يفهم كل منا ماذا يريد بالفعل.. وقدر ما يمكن أن يفعله من أجل إثبات وجهة نظره. نعم.. أنا أعارض سياسة الإخوان، وسأظل أعارض مبدأ خلط الدين بالسياسة.. وسأظل. وأعارض طريقتهم المستقطبة في حشد مؤيّديهم، وتمكينهم لأنصارهم أو لأتباع الجماعة من المناصب الحيوية في البلاد من أول الوزارة وحتى رؤساء الأحياء وسأظل.. أعارض كل تلك الوجوه التي تتحدث عن الإسلام، وتنصّب نفسها متحدّثة باسمه وهي بعيدة كل البعد عنه، وأعارض كل مَن يفكّر في الاعتداء على حريتي وعلى حقي.. أعارض الدستور الذي كتبه قلة من المجتمع لا تمثله.. أعارض استحواذ السلطة الذي لن يؤدّي إلا لشكل جديد من الفساد.. أعارض استخدام المساجد لنشر ما يريدون واستعمالها كأداة سياسية.. أعارض عدم الاهتمام بتطوير التعليم ومحو الأمية للاعتماد على هذه الفئة في الانتخابات كنوع من الاستغلال.. أعارض تفضيلهم على مصلحة الجماعة دوما، وعلى اتفاقهم مع المجلس العسكري في أشد أوقات الثورة حرجا والتخلي عن الثوار. أعارض الدولة الدينية، وسأظلّ أدعو لدولة مدنية حقيقية تحترم فيها كل الحقوق ويتساوى فيها الجميع. لكن.. ما الذي قد أفعله في سبيل إثبات وجهة نظري؟ هل سأقوم بخلق أزمة وأخيف الناس لسحب أموالها؛ فتغرق البلاد في أزمة اقتصادية طاحنة.. البعض لديه استعداد كامل لأي فعل من أجل إثبات وجهة نظره. على الجانب الآخر.. المؤيدون الأبديون مهما فعلوا.. لديهم كذلك استعداد كامل لفعل أي شيء لإثبات أنهم من على حق.. قد يصل الأمر للاشتباك الدموي مع أبناء وطنهم كما حدث عند الاتحادية وقت الإعلان الدستوري والتحرير عند إحياء أحداث محمد محمود. فليتحمّل الكل مسئولية أفعاله.. مَن سمح بالقرض الربوي من البنك المركزي ذي المبلغ الهزيل الذي لا يبرر كل التنازلات من أجله من رفع دعم وغلاء أسعار الكهرباء والسلع.. يتحمّل نتيجة أفعاله بمفرده ولا يشير بأصابع الاتهام للمعارضة بعدم المساندة في الأزمة الحالية؛ لأنهم لم يستشيروا أحدا كعادتهم وجنبوا الجميع سواهم في صنع القرار وخوّنوا الجميع واتهموا قوى وطنية بالعمالة.. فلا يتوقّعوا منّا الهرولة لمدّ الأيدي لأنهم قطعوها من قبل. ليتحمّلوا مسئوليتهم الكاملة عن الوضع الحالي، ولا يُلقوا بالمسئولية على المعارضة وأنها السبب فيما يحدث. لكن على الجانب الآخر، هناك حدود يقف عندها المرء من أجل إثبات صحة رأيه.. لا أختلق قضايا مثيرة للخوف، ولا أفتعل أزمات من أجل إضعاف وقف الخصم والتشفّي فيه عند السقوط، كما دعا بعض الإعلاميين ببذل كل ما في وسعنا لإفشال الإخوان؛ لأن سقوط البلد هو سقوط جماعي سيصيبنا جميعا.