لو كان الرئيس محمد مرسي يتقي الله لما أوصلنا لهذه المرحلة الخطيرة التي تجعل شخصا مثل مبارك يبتسم ساخرا في محبسه؛ قائلا بكل ثقة: "كنت عارف إن كل ده هيحصل من الأوّل". وعد مرسي قبل أن يجلس على كرسي حكم مصر أنه سيُعيد موازنة اللجنة التأسيسية في حال فوزه في انتخابات رئاسة الجمهورية، فأخلف وعده بعد الفوز، واستمرّت اللجنة في عملها بعد أن أصبح رئيسا رغم حجم الجدل الاجتماعي التي سبّبتها حتى فككت روابط المجتمع وأوصلته إلى التناحر والكراهية، ونشرت البغضاء بين مواطنيه؛ فهل هذه التقوى يا من تتشدّق بالإسلام؟ سار مرسي في أول خطاباته على خطى سيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- واقتبس من قوله حين قال: "لو أخطأت فقوّموني"؛ وعندما أخطأ واعترض عليه قطاع كبير من المجتمع ليقوّمه، أصرّ الرجل على عناده وتحدّيه حتى اندلعت الاشتباكات، وانقسم المجتمع، قبل أن يتحوّل هذا الانقسام إلى صراع دموي مات فيه مَن مات، وأصيب مَن أصيب، وما زال الرئيس مخلفا لوعده بعد كل هذا دون أن يعيد موازنة التأسيسية. تشهد الفيديوهات المتداولة على اليوتيوب بالصوت والصورة للرئيس بشحمه ولحمه: "لن أعرض على المجتمع الدستور المقترح على الشعب إلا إذا رأيت توافقا من الكل عليه.. هذا أمر منتهٍ"، لكننا فوجئنا أن كل ذلك مجرّد هراء وأكاذيب انتخابية، فضحها الواقع مع طرح دستور تشتعل مصر شرقا وغربا خلافا وصراعا عليه، في أحلك وأسود لحظاتها المرعبة، دون أن يتقي الرئيس الله في هذا البلد، أو هذا الشعب الذي وصل إلى حافة الهاوية. حتى في الحوار الأخير الذي تمّ معه قبل تفاقم الأزمة واشتعال الأحداث، حين سألوه عن انقسام الشعب؛ بسبب إعلانه الدستوري الأخير أجاب ببرود ورؤية سياسية قاصرة: "ده شيء صحي جدا"! وبناء على انسحاب عدد غير قليل من القوى السياسية التي تمثّل مختلف أطياف الشعب، صار الدستور لا يعبّر عن المصريين ككل، واليوم تطلّ علينا جماعات الإسلام السياسي لتتشدّق بالديمقراطية -التي أفتى بعضهم من قبل أنها كفر- لتقول تلك الجماعات بحسم: "ما دمتم تريدون الديمقراطية؛ فلنحتكم للصناديق"، فأين هي الديمقراطية إذا كان ما يتم الاستفتاء عليه هو شيء باطل من الأساس، ولا يعبّر عن أطياف الشعب، ويخالف ما وعد به الرئيس قبل أن يصل لسدة الحكم، وبالتالي فما بُنِي على باطل فهو باطل؟ أسمع بعضكم يصيح غاضبا أن الديمقراطية أيضا لا تشمل محاولات اقتحام القصر الجمهوري وسبّ الرئيس واستخدام العنف.. نعم هي لا تشمل ذلك حقا؛ لكن عليكم ألا تنسوا أن البلاد ما زالت في حالة ثورة، وأن تلك الثورة التي سقط فيها شهداء وضحايا لم تقم على نظام لا يمثّل مختلف المصريين، لتأتي بنظام آخر لا يمثّل مختلف المصريين مرة أخرى، ويخطب رئيسه فقط وسط مؤيّديه وجماعته متجاهلا باقي الشعب الذي خرج ضده عندما شعر أن ثورته لم تؤتِ ثمارها، وأن رئيسه لم يعد رئيسا لكل المصريين. الأزمة لن يحلّها إلغاء الإعلان الدستوري الصادم، وإحلال إعلان جديد يضمن -كلاكيت تاني مرة- تحصين التأسيسية ومجلس الشورى ضد أي حكم قضائي، ولا الإصرار على الاستفتاء على الدستور الذي لا يرضى عنه عدد غير قليل من الشعب المصري بغض النظر عن كونهم أغلبية أم لا. بل الأزمة أن الشعب وصل إلى مرحلة الكتلة الحرجة التي يعقبها انفجار نووي لا يُبقي ولا يذر. صار كل طرف يُفكّر في الاحتكام إلى السلاح والاقتحام؛ سواء اقتحام القصر الجمهوري من هنا، أو مدينة الإنتاج الإعلامي من هناك، بينما صارت صناديق الانتخاب والاستفتاء هي آخر ما يرضي طموحاتنا، ويعبّر عن إرادتنا. اليوم اتّحدت القوى الإسلامية إخوان وسلفيون وجماعات جهادية رغم خلافهم الشديد بالأمس، والثوار والفلول رغم كراهيتهم الشديدة، في لعبة مجنونة تأخذ الوطن نحو دوّامة حتى وإن تمّ حسمها لصالح أي القوتين؛ فستنقسم القوة المنتصرة بعد انتصارها لتصارع نفسها. فلو تمّ الاستفتاء على الدستور وانتصرت "نعم" التي تتبنّاها اليوم القوى الإسلامية؛ فستتصارع تلك القوى فيما بينها، وتنقسم من جديد إلى إخوان، وسلفيين، وتكفير وهجرة، ليتناحروا فيما بينهم على السلطة، ولن تسكت القوى المدنية وتستسلم لذلك الدستور لتظل حالة الصراع والتناحر بين أبناء الوطن. وبالمثل إن فازت "لا" التي تمثّل القوى المدنية؛ فسيعود البرادعي وحمدين صباحي وعمرو موسي... وغيرهم للصراع من جديد عند تشكيل اللجنة التأسيسية الجديدة، وتنقسم تلك القوى مرة أخرى إلى ثوار وفلول من جديد، في حين ستتدخل القوى الإسلامية بشكل عنيف لضمان تكثيف وجودها في اللجنة التأسيسية الجديدة حتى يضمنوا الهوية الإسلامية للدولة، لتصدق تلميحات مبارك "أنا أو الفوضى". فأين دور مرسي في ذلك؟ دور الرئيس ألا يتحدّث عن الاحتضان بين بني الوطن بالقول فقط، دون أن يكون لهذا الكلام ما يُبرهن عليه من فعل وخطوات جادة وواضحة تحدث على أرض الواقع. فمصر يا سيادة الرئيس على مدار تاريخها يظلّ مفتاح إصلاحها وطريقة إنقاذها في يد الحاكم قبل أن يكون في يد الشعب؛ يعني باختصار يتم إصلاحها من فوق، وليس من تحت، وارجع إلى التاريخ والدين، لتدرك أن الله أرسل كليمه موسى عليه السلام إلى فرعون قبل الرعية، وجعل سيدنا يوسف الصديق عليه السلام مستشارا للملك ورئيس وزرائه لينقذ البلاد وشعبها من الهلاك. لذا.. فاعلم أن الدستور الحالي رغم كل هذا الخلاف عليه، يحتوي على 236 مادة أُقسِم لك أن أكثر من 200 مادة فيهم تحظى بإجماع وتأييد وطني من مختلف أطياف الشعب، وأن كل هذه التظاهرات والحرب الشعواء من أجل مجموعة مواد قليلة يمكن إعادة النقاش حولها وتنقيحها؛ فلماذا لا نستبعدها من الدستور الحالي ونعيد النقاش حولها بما يُرضي كل الأطراف أو يُحقّق الحد الأدنى من التوافق؟