سؤال محيّر: في يوم 23 يوليو القادم هل سنحيي ذكرى شعب مصر سنة 1952 أم ذكرى انقلاب العسكر في نفس العام؟ هل من المنطقي أن يخرج من يهتفون "يسقط يسقط حكم العسكر" ليحتفلوا ببدء ما يعتبره الكثيرون -بالذات الثوار- بداية ستين عامًا من الحكم العسكري لمصر؟ هل نحتفل أصلاً أم لا؟ المسألة تعيدنا للسؤال العتيد: هل ما حدث سنة 1952 كان ثورة أم انقلابًا؟ البعض يعتبرها انقلابًا عسكريًا؛ لأن الأعمال المادية لها تولاها الجيش بنسبة 100% والبعض الآخر يصنّفها كثورة باعتبار أن الشعب المصري أقرّ ما قام به جيشه، وأن هذا الجيش هو جزء من الشعب.. المشكلة أن أصحاب كلتا وجهتي النظر يسوقون أدلة تستحق النظر وبعضها يستحق القبول.. فالقائلون بالاحتفال بالمناسبة باعتبار أن يوم 23 يوليو هو يوم عيد يبدأ حديثهم بحقيقة أن فترة ما بعد هذا التاريخ شهدت أول حكم مصري خالص غير خاضع لدولة أو نظام آخر منذ نهاية عهد الفراعنة، مما خرج بالحُكم وصنع القرار عن احتكارهما من قِبَل والٍ أو خديوي أو ملك أجنبي الأصول.. كذلك ترتبت عليها استقلالية صنع القرار السياسي المصري عن التبعية لأية عاصمة أجنبية سواء كانت الأستانة أو لندن أو غيرها، وشهدت قيادة مصر للمنطقة العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد أن كانت بلدانها تخضع أولاً للدولة العثمانية ثم -بتقاسم النفوذ- لفرنسا وبريطانيا.. هذا فضلاً عن الاستقلالية الاقتصادية التي حظيت بها مصر بتحررها من السيطرة البريطانية الفرنسية المكبلة لها منذ عهد إسماعيل، مما ساهم في بناء صناعة مصرية قوية واقتصاد مصري قوي بالذات في السنوات من 1957 إلى 1967.. ويؤكدون سلامة موقفهم بأن تكالب دول الغرب وتحالفها مع إسرائيل لتوجيه الضربة تلو الأخرى لمصر، من قطع للتمويل الأمريكي لمشروع السد العالي، والعدوان الثلاثي في 1956 ثم النكسة سنة 1967 وحتى دعم إسرائيل في مواجهتها معنا في حرب 1973.. كل تلك المواقف الغربية تؤكد أن مصر قد صارت دولة تخشاها الدول الكبرى ذات المال والعتاد.. أما الجانب الآخر فهو رافضٌ للاحتفال، فهو إما معترف بكل ما سبق من "إنجازات" للنظام الحاكم فيما بعد 1952 ولكنه يرى أنها كانت صحوة مصرية مؤقتة انحدرت بعد ذلك ولم يُترَك لنا منها سوى الحكم العسكري القمعي.. أو هو يرى أن استمرار احتكار العسكريين للسلطة وعدم تسليمها للمدنيين بعد 1952 بل وانقلابهم على الرئيس محمد نجيب بعد أن نادى بالعودة للثكنات، هو دليل قاطع مفحم أن ما جرى يوم 23 يوليو 1952 كان مجرد انقلاب عسكري، وأن تمسّك العسكر بالسلطة هو جرم فادح تتضاءل أو تختفي إلى جواره أية انجازات.. وجهة نظر هؤلاء أن أية دولة مؤسسات محترمة ينبغي أن تتساوى فيها مؤسسات الدولة فلا تحتكر إحداها السلطة وتتحكم في مقدرات البلاد برؤيتها وحدها وإن كانت لإحداها أفضلية فللمؤسسة البرلمانية المنتخبة من الشعب والممثلة له باعتبار أنه -الشعب- المصدر الوحيد للسلطات، وبما أن المؤسسة العسكرية من المؤسسات التنفيذية للدولة فإن مكانها ليس مقاعد الحكم، بل إن عليها أن تخضع للسلطات المنتخبة ممثلة في البرلمان، وأية مخالفة لذلك هي هدم لمدنية الدولة وتحويلها لمجرد معسكر كبير. ويستدلون على ذلك بأن العسكريين بعد 1952 قد حكموا مصر بطريقة إدارة المعسكرات الحربية، فأقصوا أهل الكفاءة والرأي لصالح أهل الثقة و"تمام أوامرك يا افندم"، وأُسِّسَت منظومة أمنية قمعية رهيبة نشرت عيونها في كل مكان حتى لم يعد المرء يأمن أن يبوح برأيه الصريح أمام أخيه، وعرف المعارضون طرقات "زوار الفجر" على أبوابهم، واختبروا الاعتقال والتعذيب، ثم بدأت "المميزات" المرتبطة بالاقتصاد والسياسة في التراجع -بالذات في عهد السادات- حتى جاء عهد مبارك وانتهى ولا ميراث لنا من 23 يوليو 1952 إلا الدولة العسكرية القمعية صاحبة الستين عامًا من الحكم! الرأيان لهما وجاهة تستحق الاحترام، وهما في ذات الوقت يستحقان أن يؤخذ منهما ويُرَدّ على أصحابهما.. وإن كنتُ -كباحث في التاريخ- أنصح بتقييم الأحداث والأنظمة بحيادية جافة من المشاعر لا تتعامل سوى مع البيانات والأرقام والوقائع المسجلة.. فأنا لا أستطيع أن أدين أو أزكّي هذا النظام أو هذا الحدث بطريقة "لأني أحبه - لأني أكرهه".. هنا الأهواء الشخصية لا مجال لها لو أردنا الموضوعية الخالصة. بالتأكيد لن يحتفل أحد رغمًا عنه بذكرى حدث لا يراه يستحق الاحتفال، وكذلك الراغب في الاحتفال وإحياء الذكرى لا يستطيع أحد أن يمنعه، لكننا هنا نتحدث عن الدولة المصرية، هل الدولة ممثلة في مؤسساتها ورئاستها المنتخبة من الشعب المختلف في شأن تلك المناسبة لها أن تتعامل مع تلك الأخيرة باعتبارها عيدًا قوميًا أم لا؟ الواقع أننا قبل الاحتفال ينبغي أن نحظى أصلاً ب"دولة" لتحتفل... دولة برئيس منتخب كامل الصلاحيات، وبرلمان منتخب مستقر، ووزارة وطنية ممثلة لتيارات الشعب، ومؤسسات -منها المؤسسة العسكرية- خاضعة للشعب ممثلاً في برلمانه لا محتكرة للسيطرة ولا متعاملة باعتبارها دولة داخل الدولة... بهذا الشكل نستطيع أن نرى الصورة أوضح وأن نقرر إن كان هذا التاريخ أو ذاك يشكل في تاريخنا إضافة إيجابية تستحق الاحتفاء، أم إننا نتعامل معه باعتباره "كان أحسن مما قبله" بطريقة "ليس في الإمكان أحسن مما كان"؟ قبل أن نحظى بتلك الدولة لن نستطيع أن نقرر استحقاق تاريخ 23 يوليو أن يكون عيدًا قوميًا من عدمه.. فالمشكلة ليست في المناسبة بقدر ما هي فيمن سيحتفل بها!