لقد انتشروا.. افتح الفضائيات.. موقع تويتر.. موقع فيسبوك.. الصحافة المطبوعة والإلكترونية.. حتى حلقات النقاش الخاصة؛ ستجدهم في أغلب هذه الأماكن، يحملون الهستيريا ويحدثونك برعب عن الدولة الدينية القادمة.. يرفعون الصورة الشهيرة لمجموعة من الأشخاص معلقين من حبال المشانق في إيران، ويقصّون عليك ماذا فعل التيار الديني بالتيار المدني هناك.. يقولون لك إنهم يتوقعون السيناريو المماثل في مصر. من البداية.. اسمحوا لي أن أُسجِل اعتراضي على عملية افتراض سيناريوهات خارجية باعتبارها قابلة للتطبيق في مصر بنسبة مائة بالمائة، سيناريوهات لدول مثل: تركيا، ورومانيا، وإيران، وإيطاليا، وباكستان، والبرازيل... وغيرها من الفرضيات المتداولة، والتي يتعامل البعض معها باعتبار أن أحدها هو مصيرنا لا محالة، ضاربين عرض الحائط بالاختلافات الجوهرية في عناصر مهمة؛ كطبائع الشعوب، والمضمون التاريخي، واختلاف المؤثرات السياسية والاجتماعية من مجتمع لآخر... وغيرها، مع إن العقل والمنطق يفرضان علينا حين نضع تحليلا أو توقعا مستقبليا أن نستخدم معطياتنا؛ الخاصة أن نُخضِع التوقعات لمؤثرات مجتمعنا نحن؛ وإلا فإننا سنكون أمام تطبيق آخر لمقولة "إذا ضعف العقل استسلم للخرافة"، فما الخرافة إلا انفصال بين الأفكار والواقع.. ومِن هذه الخرافات خرافة "سيناريو إيران وقيام دولة دينية في مصر"..
تعال عزيزي القارئ.. نتأمل النموذج الإيراني للدولة الدينية.. إيران بطبيعتها مجتمع قاسٍ الطباع -منذ بداية نشأة أول دولة فارسية بها على يد قورش- ويميل شعبها نوعا ما للقبلية والسير وراء زعامة ليست فقط سياسية بل روحية، وقد بدا هذا واضحا في فكرة تقديس الأكاسرة، وعصمتهم من الخطأ باعتبارهم من نسل الآلهة، وأنهم يتلقون عن الإله وحيا مباشرا، والتي ورثها الفُرس حتى بعد اعتناقهم الإسلام؛ بأن سارعوا لاعتناق الفكر الشيعي القائم على الخضوع لإمامة الإمام علي كرّم الله وجهه ولأبنائه ولأحفاده من بعده.. هذا المذهب الديني الإمامي يقوم في الأساس على فكرة الإيمان بأن هذا الإمام -علي ونسله- ليس بشرا عاديا يخطئ ويصيب؛ بل هو تجسُّد إلهي للكمال الرباني، وهذا لأن عليّ -وفق معتقدهم- قد تلقى العلم الكامل والحكمة من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ بعد أن تلقاه صلى الله عليه وسلم من الله مباشرة، ثم توارث أبناء علي وفاطمة -رضي الله عنهما- هذا العلم وهذه الحكمة بشكل أشبه بالوراثة البيولوجية للصفات عبر الجينات؛ وهو ما يعني نتيجة واحدة: عصمة الإمام. وبعد اختفاء الإمام الثاني عشر في مدينة سامراء؛ فقد اعتقد الشيعة الإمامية أو الإثنا عشرية أنه قد رُفِعَ أو غاب غيبة ينتظرون عودته منها، وبالتالي فقد كان من الضروري أن تظهر بينهم زعامات دينية هي الأئمة، أو من يمثلهم اليوم المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، وآيات الله بمدينة "قُم".. هؤلاء الزعماء الروحيون ليسوا بأئمة أصلين؛ ولكنهم نواب عن الأئمة من آل البيت.. مما يعني بطبيعة الحال اكتسابهم العصمة الإلهية من الخطأ أو الزلل.. والمؤمن الحق في مذهبهم من تبع إمامه، ومَن لم يفعل فإنه يموت ميتة الجاهلية. بالتالي فإن المذهب الذي تعتنقه الأغلبية الكاسحة من الإيرانيين يقوم على فكرة "عصمة الإمام" ليس كجزء من الوجدان الجمعي للشعب ولا كفكرة قابلة للنقاش؛ بل كجزء من عقيدة دينية فارسية قديمة لم يتصدى لها إسلامهم حتى بل طوّعوا إيمانهم الإسلامي ليحتويها.. هذا يعطينا فكرة عن شدّة رسوخ هذا المبدأ لدى الإيرانيين.. السؤال إذن: هل يجد أي رجل دين أو سياسي ينتمي للتيار الديني أية صعوبة في أن يقود الشعب الإيراني يمينا ويسارا؟ وأن يجعل هذا الشعب يقبل أن تمارس السُلطة أي قمع يصل لحد القتل بحق المعارضين؛ ما دام أن هذا الشعب يؤمن بأن هذا الإمام ما هو إلا ما يمكن اعتباره صورة بشرية لله على الأرض؟ وعلى هذا تقوم من الأساس فكرة الدولة الإيرانية الدينية.. ولاية الفقيه. هذا عن إيران..فماذا عن مصر؟!
هل يعلم القارئ العزيز أن آخر دولة دينية عرفها المصريون كانت دولة الفراعنة؟ وحتى هذه خضعت للتطور الفكري، فخلال عهد الدولة القديمة كان الفرعون إلها، وفي الدولة الوسطى صار نصف إله؛ بينما في الدولة الحديثة أصبح إنسانا؛ ولكنه يشغل منصبا مقدسا؛ حتى إن فرعون موسى حين قال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} كانت هذه بدعة بين الفراعنة، فلم يكن لأي منهم سابقة أن يدّعي أنه كبير الآلهة.
هذا التطور الفكري هو ما جعل المصريين يرحبون بالمسيحية ثم الإسلام، بينما رفضوا بكل شراسة أن يعتنقوا فكرة "عبادة الإمبراطور" التي حاول الرومان فرضها عليهم بالقوة.. هذا تطور ينبغي أن نلاحظه. التجربة التالية لمحاولة -مجرد محاولة- لفرض نظام الدولة الدينية كانت في العصر الفاطمي؛ حيث كان الفاطميون يعتنقون المذهب الشيعي، ويروجون لنفس فكرة عصمة الإمام.. فما الذي حدث؟ ببساطة لم يتقبل المصريون هذا المذهب ولم ينتشر إلا بين الطبقة الحاكمة أو المتملقين لها؛ بل وجرت المعارك بالسيوف والبُلَط في الشوارع لمحاولة الفاطميين فرض تلك الفكرة، وفور سقوط دولة الفاطميين اختفى مذهبهم وتحوّل إلى مذهب محظور؛ رغم أنهم حكموا مصر لمدة 160 عاما.. وبالمناسبة فإن المصريين خلال العصر الفاطمي قد أشبعوا الحكام سخرية واستهزاء.. وهو فارق كبير بين الشعبين المصري والإيراني؛ فالأول اعتاد السخرية والتنكيت على حكامه، بينما الآخر اعتاد احترامهم لحد التقديس أحيانا.. والطبع -كما يقال- يغلب أي تطبع. السؤال.. هل هذا الاختلاف في المعطيات التاريخية بين الشعبين الإيراني والمصري ينبئ بأدنى إمكانية لأنْ تؤدي في مصر لنفس ما أدت إليه في إيران.. أعني "الدولة الدينية"؟ الأمر عندي كباحث في التاريخ يشبه أن يتحدث أحدهم عن إمكانية أن تنضم إسرائيل لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
إن المعطيات الوحيدة التي يعتمد عليها مَن يروجون للخوف من قيام دولة دينية في مصر هي تلك المتعلقة بشعبية رجال الدين، وانتشار الفكر السلفي على الطريقة السعودية، وانتشار الجهل والانقياد لكل من أطلق لحيته وتلقب ب"المشيخة".. لكن السؤال هنا: هل هذه معطيات كافية لقيام دولة دينية كاملة بنظامها ومؤسساتها وقاعدتها الشعبية؟ لماذا إذن لم يتحمس المصريون لتلك الفكرة حين أطلقها المتطرفون وحملوا لأجلها السلاح في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؟ وإن كانت الإجابة هي: "لأن هؤلاء المتطرفين لم تكن لديهم السُلطة، ولو كانت لهم لانقاد لهم المصريون".. والسؤال التالي هو: ولو كان المصريون قد بلغوا هذا الحد من الانقياد.. فكيف قاموا بالثورة؟ وإذا كان المصريون يقبلون لفكرة وجود مرشد أعلى أو قائد روحي.. فلماذا لم يسارعوا زمرا وزرافات للانضمام لجماعة الإخوان المسلمين أو الدعوة السلفية -مثلا- بعد أن حررتهما الثورة من الحظر والقمع؟! الفكرة تبدو ممجوجة وشديدة السطحية، ولا تعتمد إلا على معطيات عارضة أو مؤقتة لم تتوفر إلا في ثلاثة أو أربعة عقود من عمر المصريين.. وتجاهل أصحاب هذا الفكر باقي عمر المجتمع المصري.. الأمر يشبه أن تحكم على رجل تقي صالح أنه فاسد منحل مع أول زلة يرتكبها، متجاهلا عمرا كاملا من الصلاح. والأسئلة الأخيرة التي أطرحها على هؤلاء الذين يروجون للخوف من نموذج الدولة الدينية الإيرانية هي: - ما هو مدى طلاعكم على الاختلافات المذهبية بين الإيرانيين والمصريين فيما يخصّ شكل الدولة في عقيدة كل منهما؟ - ما هو مدى اطلاعكم على خصائص المجتمع الإيراني بالذات المؤثرة في نظرته للحُكام واختلافها عن تلك الخاصة بالمجتمع المصري؟ - ما هو مدى اطلاعكم على التاريخ الفكري والاجتماعي والديني للمصريين؟ مع الأسف فإن أغلب من واجهتهم ممن يعتنقون فرضية الدولة الدينية لا تتوفر عندهم أية معطيات كافية للحكم والتوقع المستقبلي.. وليست لديهم سوى "مشاهدات - تجارب - نماذج"، وإني لأتفهّم مخاوفهم العادلة من خطاب بعض المنتمين للتيار السياسي الديني، وإن كنتُ أرى الظلم في حكمهم وأنصحهم -نصح من شاركهم المعاناة من سوء الخطاب المذكور وظلمه للمنادين بالدولة المدنية- أن يسعوا مسبقا لتحييد العواطف، ثم طرح الأسئلة سالفة الذكر على أنفسهم، وإيجاد إجابات علمية وعملية لها مستندة على الواقع والتاريخ، وهذا مما يزيل الخوف.. الأمر أشبه بمن يخشى ظلال الأشياء في غرفته المظلمة، فما عليه إلا أن يلتمس بعض النور ليتعرف ملامح الأشياء وحدودها؛ ليكون تعامله معها وفق حقيقتها لا وفق ما قد يصوّر له خوفه.. هذا ما أنصح به نفسي دوما كلما أحسست تأثير القلق والخوف على نظرتي.. وأرجو أن تلقى نصيحتي تلك منكم القبول..