أقواس كثر تعدو، تبدأ أوتاراً صغيرة وتتعاظم حتى تملأ الكون. تبعث داخل آذني طنيناً مكتوماً. الخدر يغزو جسدي، وأنا أهبط إلى أسفل ببطء شديد، والأقواس عند لمسها جسدي تحركه حركة واهنة، وتجعله يدور حول محوره. ألمح من حولي أشخاصاً مثلي يهبطون، ومن حولهم تتساقط الحقائب والمتاع. يحيط بها لون أزرق شاحب. يسكن جسدي عندما يرتطم بأرض رخوة، وتتناثر حولي غمامة من الأتربة. بجواري ألمح أعشاب القيعان تتراقص كقبضة اليد، تتكور وتنبسط،، ومن حولها أسماك ملونة تحدق بي بعينيها الميتتين، عندئذ أدركت أنني في قاع البحر. على الرغم من بشرتي التي لوحتها الشمس، وشعري الخشن كأشواك القنفذ، لكن لا أحد ينكر أنني بذلت كل جهدي في التأنق، بداية من ربطة العنق المنتقاة بعناية، والحُلة السوداء التي أهتم بها عامل الكواء، وحتى الحذاء اللامع المصقول.
تنحنحت لألفت نظر الرجل الجالس خلف مكتبه، ثم أمليت له اسمي، وأنا على يقين أن تعييني في السلك الدبلوماسي لا شك فيه؛ فأنا من أوائل الدفعة، وقد ظهرت على شاشات التلفاز متألقاً كالبدر، رافعاً رءوس أسرتي وأهل قريتي. هذا حقي الذي اجتهدت لأجله كثيراً. سهر الليالي وأنا جالس على الرصيف، أستذكر دروسي على ضوء المصابيح الذي أنهكه الظلام، حتى أجد الهدوء الذي أنشده، وأوفر لوالدي القليل بعدما ضاع منه الكثير.
لذلك راعني ما فعله الرجل من هز رأسه يمنة ويسرة، ونظرة مشفقة تطل من عينيه، وعندما تهاويت منكسراً على أقرب مقعد، وسألته عن السبب، نطق جملة واحدة، أصابت وجهي كسبة بذيئة : - غير لائق اجتماعياً. أمتطيت صهوة حذائي، وواصلت بحثي الدءوب عن عمل حتى بلي. في المساء أعود حاملاً أذيال خيبتي، ومتشبعاً بالمرارة حتى الحلقوم، حتى أن الطعام يأبى أن يعبر إلى جوفي. أرمق بنظرة خاوية شاشة التلفاز، وهي تعرض ذلك القطار الذي يجب أن ألحق بركبه.
اندفع إلى عقلي سيال من الذكريات، وأنا أنتظر أبي حتى يعود دافعاً ذلك العملاق الحديدي، إلى وجهته النهائية. ترى هل قائد قطارهم بمثل مهارة والدي؟
أقف لأحرك قطع الأخشاب بملل، وألقمها لأسنان المنشار الذي يلتهم أطرافها بسرعة، ويلتهم معه أجزاء من روحي، ويمزقها لتتساقط على هيئة عبرات من مآقي.
شتان بين الحلم الذي يرفعني إلى عنان السماء، والحقيقة التي تغوص بي إلى أسفل سافلين، حقيقة تملأ ثمرة مجهودي بالديدان.
أترجل أسفل ظلال الأغصان، التي كانت تنفذ منها أشعة الشمس فتفرش الطريق ببقع شوهاء من الضوء. تأملت شريان النيل الذي تراءى لي هذه المرة كخيط لا يتوقف من الدموع. كنت أشعر أن الكون قد أطبق على صدري بكلابة من حديد، والضجر يملأ فراغ كياني، وأن روحي تكاد تعرج إلى السماء. أريد أن أرحل بعيداً حيث أستطيع التنفس. ليس هذاالمكان مكاني. تأملت ظلي الذي كان غير محدد المعالم. تساءلت " هل هذا الظل انعكاس لذاتي أم للحلم الذي تبدد؟"
لكن على الرغم من الظلال التي تحيط بي، لمحت شعاعاً رفيعاً من الضوء يعكس داخله شتاتاً من ألق الألوان
دائماً ما يمنحني صدر والدي الدفء والآمان، لكن عناقنا اليوم كان يختلف - من جانبي على الأقل – لرحيلي بعد دقائق. طال العناق حتى انتزعت نفسي بعسر من بين جوانحه، والتقطت كفه ألثمها بشكر عميق، ذات الكف التي وقعت على عقد رهن المنزل. قلت باكياً: - سأعوضك خيراً يا والدي العزيز. يربت على كتفي، ويقول متأثراً: - أنت الأهم يا ولدي. كن بخير دائماً. أعانق أمي كذلك عناقاً طويلاً، وأغادر بوجه مبلل بالعبرات. القمر في مرحلة محاقه الأخيرة ، لا يبدو منه غير خيط أبيض شاحب ضئيل. والنجوم تتوارى خجلاً خلف الغيوم الداكنة.
في قلب الأمواج الرصاصية الثائرة الهادرة. تقافز القارب الخشبي المتهالك كلعبة صغيرة يلهو بها طفل صغير. خشبها يئن مصدراً صريراً كأنات كمان يعزف لحناً حزيناً. مقدمته ترتفع حيناً وتهوي حيناً، وبين الحين والحين يتناثر الرذاذ على ركابه، الذين جلسوا في صمت كصمت القبور.
كنت أجلس بينهم، أرمق وجوههم الساكنة، وأقارن بيني وبينهم. تساءلت داخلي " هل الكون يطبق على صدورهم أيضاً؟ هل تاه منهم الحلم في خضم الحياة؟"
لملمت أطراف ثوبي على جسدي؛ فبرد اليوم مختلف على الرغم من أن الشتاء الطويل يأتي كل عام. لا أعلم يقيناً ما وجه الاختلاف لكنني أشعر كأن الدفء أمسى مفقوداً من العالم.
أخذت أرنو إلى الجانب البعيد حيث وجهتي عل اقتراب الحلم يمنح قلبي الدفء، لكني متوجس لم ألمح غير الأمواج تحول بيني وبينه؛ لتتوقف نظراتي هناك. في عرض البحر.
علاء محمود عبد المجيد
التعليق: علاء محمود عبد المجيد كاتب مقتدر يجيد السرد والوصف. والأزمة شديدة الأهمية لكن لحظاتها أكثر من احتمال القصة القصيرة يمكن إعادة توزيع الوقائع لتكون خيالات تتوالى خلال الغرق.
د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة