منذ بضعة شهور، طلب مني صديقي الاستماع لتلك المقطوعة الشعرية على جوّاله؛ فوافقت على مضض؛ موقناً بأني سأستمع لقصيدة ما بها ذلك البيت الأبدي في قصائد العامية: "لاجل الضيّ ما يبان في عينيك"، وهو البيت الذي يجب أن أجده في كل واحدة؛ حتى صرت أبحث عنه في كل قصيدة لأتأكد أنها "في السليم"!! بدأت المقطوعة؛ فاقتحم أذني صوت جهوري زاعق، يحمل لهجة صعيدية لا تخطئها أذناي، وطريقة طفولية في نطق حرف الراء، يقول كلاماً قوياً رناناً اجتذبني بشدة؛ حتى إنني نسيت البحث عن البيت الأسطوري إياه؛ حتى وصلت لبيت يقول: "كرامتنا متهانة.. واللقمة بإهانة.. بتخلفينا ليه لما إنتِ كارهانا"؛ فتجمعت الدموع في عيني، والتفتّ لصديقي أسأله: مَن هذا الرجل؟ فكانت إجابته: هشام الجخ. كانت هذه هي بدايتي في الاستماع لهشام؛ حيث صرت أسمع له بعد ذلك من خلال صديقي، أو من خلال الإنترنت ومقاطع الفيديو المصوّرة من حفلاته، من قصيدة "جحا"، مروراً ب"إيزيس" و"3 خرفان"، و"آخر ما حُرّف في التوراة" و.. و.. وصولاً إلى آخر قصائده التي فاقت شهرة كل قصائده السابقة، وهي "التأشيرة". رأيت كيف أن الكثيرين معجبون به وبشعره وإلقائه.. سمعت عن حلمه أن يرتفع الشعر من مسجلات سيارات الميكروباص بدلاً من أنصار السيجارة البني والدماغ القراقيش. عرفت أن البعض يشبّهونه بالأبنودي، وهو التشبيه المتوقّع لشاعر شاب يُلقي شعراً عامياً -وأحياناً بالفصحى- باللهجة والمفردات الصعيدية. قرأت أن البعض لا يعجبه هشام الجخ، وهو أمر طبيعي تؤكده المقولة الخالدة: "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع".. وحبي لشخص ما أو إعجابي بإنتاجه الأدبي، لا يعني فرض رأيي على آخرين قد لا يرون ما أراه، كما أنهم لن يقوموا بالحجر على إعجابي أو إعجاب أي من مناصريه؛ محاولين إثناءنا عن ذلك الفعل؛ بل لكل رأيه وانتهى الأمر. حتى قرأت تعليقاً لأحد أفراد الفئة غير المعجبة بهشام الجخ، يقول فيما معناه أن هذا الأخير ضعيف في شعره، وتشبيهاته لا جديد فيها؛ لكن من يستمعون له لا يفهمون في الشعر، وبالتالي هم مُغيّبون ومساكين؛ لأن الشاعر نجح في الاستحواذ على إعجابهم بطريقة الإلقاء واللعب على مشاعرهم!! كان من الممكن أن يمرّ هذا الكلام مرور الكرام؛ لولا انهمار سيل من التعليقات الموافقة على هذا الكلام؛ ليصبح سبب الإعجاب بهشام الجخ فجأة وببضع ضربات على لوحة المفاتيح، هو عدم فهم الشعر، وسوء الذائقة الفنية، والتغييب المغناطيسي الذي يقوم به الشاعر على خشبة المسرح، وعبر مقاطعه المصورة!! قد يكون لهشام أسلوبه المسرحي الذي يأسر العين، وطريقته الإلقائية التي تأسر الأذن؛ فلا يعرف من يسمع إلامَ يسمع؛ لكن المتابع لمن يسمعونه سيجد أنهم ليسوا أولئك الذين لا يعرفون ما يسمعون؛ بل إن انتشار أشعاره بين الشباب يدلّ على وعي بما جاء فيها. قد تكون لهشام الجخ أخطاؤه الشعرية التي لا يرضى عنها الأكاديميون، ممن يريدون للشعر أن يخرج مضبوط القوافي والموازين، في بحر الكامل أو الوافر أو أي من تلك البحور، ثم يظلّ حِكراً على مجموعة منهم فقط دون أن يسمعه غيرهم.. لكن يظلّ من حق المستمع أن تكون له ذائقته الفنية الخاصة به، التي تجعله يتذوق الشعر حتى لو كان بلا وزن ولا قافية، ما دام أنه مسّ وجدانه وأثّر فيه وتأثّر به، دون أن تكون هناك وصاية عليه تُجبره على سماع من لا يريد سماعهم، أو ترك من يريد أن يستمع له. أمر واحد فقط وجدتني أتفق فيه مع بعض الأصوات غير المتقبلة لهشام الجخ، وهو ما يجري في مسابقة أمير الشعراء الحالية؛ حيث أُقصي هشام عن المسابقة عن طريق لجنة التحكيم، لما أبدوه من نقاط ضعف في شعره؛ ليعود هشام بعدها بأسبوع للمضمار من جديد عن طريق التصويت ورسائل الجماهير القصيرة بنسبة عالية مكتسحة. إمارة الشعر ليست "ستار أكاديمي"، لا تُعطى بنسبة التصويتات الجماهيرية الأعلى؛ لكن اللقب هو قرار لجنة التحكيم بعد منازلة جميع الشعراء لبعضهم البعض؛ إما هذا أو تكون المسابقة من البداية قائمة على تلك الرسائل القصيرة فقط. إمارة الشعر حالة، مش تصويتات من تليفونات جوّالة.. مع الاعتذار لهشام الجخ!