هو كتاب مثير للجدل، بين قائلين بأنه كتاب متميز يلقي الضوء على فئة "مظلومة" من المصريين، وبين قائلين -وعلى رأسهم أستاذي د. قاسم عبده قاسم- بأنه كتاب مليء بالمغالطات التاريخية والترويج لادّعاءات يهودية خارجية بأن مصر مسئولة تاريخيا عن تشتيت اليهود المصريين. لكن في كل الأحوال لا يمكننا تجاهُل حقيقة أنه كتاب مهم للقارئ العربي، فهو في النهاية يعرض وجهة نظر جديرة بالتأمل، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، ومجرد اهتمام مؤرخ كبير كالدكتور قاسم بهذا الكتاب، حتى وإن كان اهتماما بالرفض والانتقاد، فهذا يعني أنه كتاب لا يمكننا المرور عليه مرور الكرام.
المؤلف تعالوا أولا نعرف من هو جوئل بنين. هو يهودي أمريكي، قضى صباه في فلسطين؛ حيث كان والده يعمل في مصفاة بترول في حيفا. بعد إعلان قيام إسرائيل قرّر والداه العودة لأمريكا، حيث استكمل تعليمه وأنهى مرحلته الثانوية. عاد بعدها إلى الأرض المحتلة، وعاش في إحدى المستعمرات؛ حيث استكمل تعلّم العربية، وكان قد اعتنق الصهيونية بحماس. سافر بعدها لأمريكا ودرس في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة برينستون، ثم سنة 1969 -وهو في التاسعة عشرة من عمره- سافر إلى مصر حيث استكمل دروس العربية في الجامعة الأمريكية بها. بعد تلك الزيارة ظهرت هوة واسعة بين صهيونيته وبين تعاطفه الشديد مع القضية الفلسطينية، فترك الصهيونية سنة 1970، والتحق بعدها بجامعة هارفارد للحصول على الماجيستير، ثم انتقل إلى ديترويت حيث تعيش جالية عربية كبيرة، وعاونها في إصدار مجلتها العربية، ثم التحق بجامعة ميتشجان للحصول على الدكتوراه، وسعى للتخصص في التاريخ الفلسطيني؛ من منطلق تعاطفه مع الفلسطينيين وتحوّله لمعاداة الصهيونية، لكنه اضطر لتغيير موضوع الرسالة تحت ضغوط أستاذه. لكن بعدها توالت مؤلفاته في تاريخ الشرق الأوسط، والتي أعلن فيها موقفه المعادي للصهيونية والمناصر للفلسطينيين وقضاياهم، وأخذ يُصَعّد من هجومه على إسرائيل إلى حد مطالبته بمحاكمة قادتها عن مذابحهم بحق العرب. والنتيجة كانت تصاعُد العداء الصهيوني له في أمريكا، واتهامه بتهم عدة أبرزها تأييده للإرهاب، خاصة مع إعلانه أن كراهية العرب والمسلمين لأمريكا ليست ناجمة عن تطرف إسلامي، بل هي نتيجة طبيعية للسياسات الأمريكية في المنطقة! وجوئل بنين حاليا أستاذ للتاريخ ومدير لدراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، منذ سبتمبر 2006. عن الكتاب أراد المؤلف لهذا الكتاب أن يكون بمثابة تأريخ لحياة اليهود المصريين منذ 1948 وحتى ما وصفه ب"شتاتهم" فيما بعد حربي 1956 و 1967، مع عرض لذكريات بعضهم عن مصر. في حوالي 500 صفحة يتحدث د. بنين عن عدة موضوعات تمسّ اليهود المصريين، حسب رأيه، مثل "صور مصر في عيون اليهود المصريين"، "علاقة اليهود المصريين بالصراع العربي الإسرائيلي"، "فضيحة بنحاس لافون الشهيرة وأثرها على يهود مصر"، "إعادة تشكيل الهوية في الشتات"، "دور اليهود في الحركة الشيوعية المصرية"، "كامب ديفيد وأثرها على يهود مصر"، و"الهوية اليهودية المصرية". كما يحتوي الكتاب على ملحق بالصور، ومقابلة مع أحد اليهود المصريين المهاجرين، وهو المحامي جاك حاسون صاحب كتاب "تاريخ يهود النيل"، ويحتوي كذلك على عرض لمشاركة بعض مشاهير اليهود في الحياة السياسية المصرية، مثل أسرة شيكوريل والناشط السياسي هنري كورييل. مصر.. واليهود المصريون والتاريخ يؤكد د. جوئل على عمق الارتباط التاريخي بين اليهود المصريين ومصر، مستعرضا أدلته التاريخية من بين كتابات المؤرخين لوجود بني إسرائيل في مصر منذ عهد يوسف الصديق عليه السلام، مرورا بالخروج مع موسى وهارون عليهما السلام، ثم عودة بعضهم فارّين من السبي البابلي، ويعتبر هذه القصص أدلة قوية على أن جذور الارتباط اليهودي المصري ضاربة في عمق التاريخ. ثم يستعرض نموذجا لحركتي مصر الفتاة والإخوان المسلمين كمثال للرافضين للقول بأن لليهود علاقة تاريخية بمصر، من منطلق رؤية الإخوان أن تاريخ مصر إسلامي في المقام الأول، ورؤية مصر الفتاة أن التاريخ المصري فرعوني إسلامي فحسب.. وهي رؤية يصفها بالرجعية. ويردّ على الادّعاءات الصهيونية بأن يهود مصر كانوا "يتوقون" ل"الخلاص" بالهجرة لإسرائيل بحقيقة بسيطة وواضحة هي أن معظم اليهود المصريين الذين هاجروا طواعية أو تم تهجيرهم لم يتوجهوا لإسرائيل إطلاقا، ويؤكد قوله بالأرقام التي تؤكّد توجه معظمهم لأوروبا وأمريكا، في ردّ قوي على تلك الكذبة الصهيونية. اتهامات ود. بنين يلقي الاتهام بما وصل إليه وضع اليهود المصريين مما وصفه ب"الشتات" على جانبين، الأول هو الصهيوني، بما كانت تمارسه إسرائيل من عدوانية تجاه العرب والمصريين بالذات، الأمر الذي أشعل حالة غضب شعبي ضد اليهود، والآخر هو الجانب المصري الذي يتّهمه المؤلف بالتراخي في الدفاع عن المصالح اليهودية الوطنية التي تعرّضت للهجمات التخريبية بعد حرب 1948، وكذلك على حكومة النظام الناصري التي وقعت -على حد ما جاء بكتابه- في "الفخ" الإسرائيلي الرامي أولا لإظهار مصر كدولة معادية للسامية، وثانيا لنقل الكتلة البشرية اليهودية المصرية بطاقتها الإنسانية والمادية إلى الأرض المحتلة.. ويُرجِع تاريخ ما اعتبره اضطهادا رسميا لليهود المصريين إلى ما بعد عملية بنحاس لافون التي قام خلالها الموساد بتجنيد بعض اليهود المصريين؛ للقيام بأعمال إرهابية ضد مصالح أمريكية وبريطانية في مصر، في محاولة لتخريب علاقة تلك الأخيرة بالدولتين. ما بَعد كامب ديفيد يُرجِع المؤلف سبب الصورة السلبية لليهودي المصري في عيون كثير من المصريين -فيما بعد كامب ديفيد- لعدة أمور، أهمها نشوء جيل كامل لم يرَ يهودا مصريين، وإن كان يرى بعض آثارهم كمحلات شيكوريل وبن زايون، وكذلك كتابات المثقفين المعارضين لاتفاقية السلام، والتي قدّمت -في رأيه- صورة سلبية عن اليهودي، وأيضا المعارضة الإسلامية التي تصاعدت في عقد الثمانينيات وما بعده، وهو لا يُرجِع تلك الكراهية لطبيعة عنصرية في المصريين، بل يفسرها بأنها من توابع الرفض المصري الداخلي لاتفاقية كامب ديفيد، خاصة أن التراث الإسلامي بالذات به صيغ للتعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين واليهود على حد قوله. ويستعرض المؤلف صور الرفض القوي من قطاع المثقفين للتطبيع مع إسرائيل كأحد أسباب الاهتمام الأكاديمي بالتاريخ الحديث لليهود المصريين، ويقول إن من أبرز تبعات كامب ديفيد أن امتداد ما أسماه ب"تناول اليهود بشكل فيه معاداة للسامية" إلى فئات أخرى مثل المثقفين العلمانيين، بعد أن كان له انتماء إسلامي. ختام هذا الكتاب مثير للجدل بالفعل، وأنا أنصح القارئ أن تسبق قراءته كتاب "شتات اليهود المصريين" قراءة جيدة في مصادر موثوق منها عن التاريخ اليهودي، خاصة أن مؤرخا بثقل الدكتور قاسم عبده قاسم قد وجه نقدا شديدا للكتاب وموضوعيته، ورأى فيه تزييفا لحقائق عدة، بالإضافة لرفض المؤلف تلقّي مداخلة تليفونية من د. قاسم في أحد البرامج على الهواء، الأمر الذي أثار جدلا، وانتقص من ثقة د. بنين في مصداقيته. لكنه في النهاية كتاب يستحق القراءة؛ فهو يعرض وجهة نظر رجل يستحقّ أن تُعرَف وجهة نظره قبل أن نصنّفها بين الصحة أو الخطأ.