في واحدة من أهم القمم العسكرية في عصرنا الراهن، أنهى زعماء حلف الناتو قمة لشبونة بالبرتغال، وقد اتّفقوا على نشر الدرع الصاروخي في شرق أوروبا. وكان مشروع الدرع الصاروخي قد واجه اعتراض روسيا وتركيا، بينما أصرّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما عليه؛ من أجل حماية أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية من الصواريخ المتطوّرة التي تمتلكها إيران وكوريا الشمالية. وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي واضحا وصريحا، حينما قال إن الدرع الصاروخي موجّه أساسا إلى الخطر الإيراني. أما الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد عمدت إلى إزالة مخاوف تركيا وروسيا، حيث عقد أوباما مع الروس اتفاقية "ستارت" الخاصة بتخفيض الترسانة النووية الأمريكية والروسية، واتفق أوباما مع الروس على أن تتوقف بلاده عن محاولة إيجاد قدم لها في آسيا الوسطى، خاصة قيرقيزستان. وبالفعل لم تتدخل واشنطن في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت هنالك، وأدارت روسيا الملف القيرقيزي بحرية كاملة. وكان الطلب الروسي الأخير هو ألا يكون هنالك معدات عسكرية تابعة لحلف الناتو موجودة على الحدود المباشرة بين روسيا وجيرانها الأوروبيين، وهو ما وافق عليه أوباما فورا، وهكذا قبلت موسكو بالدرع الصاروخي، بل قبلت المشاركة في قمة الناتو، رغم أنها ليست عضوا في هذا الحلف العسكري. أما تركيا فكانت عملية اقتناعها أسهل بكثير؛ فالمسئولون في تركيا طلبوا من الأمانة العامة لحلف الناتو ألا يبدو المشروع كأنه موجه تحديدا إلى إيران؛ وذلك حتى تتجنب تركيا أي حالة غضب من الشارع العربي، وذلك بعد الشوط الكبير الذي قطعته تركيا لكسب رجل الشارع العربي. واشنطن والدول الغربية تفهّمت الطلب التركي، خاصة أن شعبية تركيا في المنطقة العربية أصبحت تنافس شعبية إيران، وهو مكسب كبير للعالم الغربي، الذي يريد أن يفرّغ الشارع العربي من أي حالة تعاطف مع طهران. وهكذا تجنّبت قمة الناتو ذكر إيران، أو حتى كوريا الشمالية، وباستثناء تصريح ساركوزي -المنفلت دائما- وأصبح الدرع الصاروخي أمرا واقعا، ودون التحفظات التركية أو الإيرانية. القبول التركي بهذا المشروع العسكري فجّر دهشة خفية في طهران، خاصة أن تركيا تسعى منذ فترة لاحتضان مفاوضات نووية بين إيران والدول الكبرى، على اعتبار أنها الوسيط النزيه، وتساءل رجال طهران عن كيفية قيام الوسيط بقبول استضافته صواريخ متطورة ليس لها هدف إلا قصف إيران؟؟ طهران تدرس هذه الأيام الموقف التركي، خاصة أن هذا الموقف يأتي عقب أقل من شهر من الصفعة الروسية، التي جعلت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يخرج عن شعوره، ويصف روسيا بأنها باعت نفسها للشيطان الأكبر، ويقصد أمريكا، وتوعّد نجاد الجار الروسي بفعل مزلزل. وبالعودة إلى تركيا، فإن أنقرة تثبت مرارا أنها تلعب على كل الأطراف وفقا لمصلحتها الخاصة، تركيا تعرف جيدا أن الشرق الأوسط يعشق الخطب البطولية والشعارات القوية، بينما الغرب يريد أفعالا، لذا قدّمت المطلوب للاثنين. فالشرق الأوسط وشعوبه لديهم خطب رجب طيب أردوغان الرنّانة، والغرب لديه قرارات عبد الله جول الحاسمة، لذا فلا عجب أن يمثل تركيا في اللقاءات الخاصة بالأطراف العربية رئيس الوزراء أردوغان، بينما رئيس الجمهورية "جول" هو الذي يذهب لقمم "العشرين" و"الثمانية" والأمم المتحدة. أما إيران، فلم تفهم قواعد اللعبة السياسية يوما ما أبدا، إيران بارعة في جذب رجل الشارع، أو تحقيق مكاسب إقليمية في العراق وأفغانستان ولبنان، ولكنها فشلت حتى الآن في اللعبة على المستوى الدولي. ويبدو ذلك واضحا في طريقة تعاون إيران مع روسيا، أو طريقة عمل إيران مع تركيا، ففي الحالتين لم تتفهم طهران طبيعة التقارب الروسي والتركي لها، وظنّت طهران أنها تكسب روسيا أو تركيا لصفّها، وهو أمر بالغ الصعوبة، فمن جهة، روسيا قطب دولي لا يقبل بأن يعمل ضمن فريق دولي تقوده طهران. أما تركيا فهي الأخرى لديها مشروع إقليمي، ولا يمكن تنفيذ المشروع التركي ضمن المشروع الإيراني، كما أن تركيا هي الأخرى لا تحبّذ التحرك ضمن فريق إقليمي، وتفضّل أن يكون لها فريقها الخاص، لذا لا عجب في قيام تركيا بتنظيم قمم دولية للدول المتحدثة باللغة التركية في محاولة لإيجاد حلفاء في آسيا الوسطى. وختاما فإن إتمام مشروع الدرع الصاروخي برضا تركيا وروسيا يعتبر مكسبا حقيقيا للغرب وإسرائيل؛ إذ كانت بعض الأطراف الدولية متخوّفة دائما من قصف إيران خشية الانتقام الإيراني بدكّ شرق أوروبا بالصواريخ. اليوم أصبح الشرق الأوروبي آمنا، ويمكن لإسرائيل أن تناقش قصف إيران بكل هدوء، خاصة أن أوباما مثخن بجراح هزيمة انتخابات الكونجرس، ويبحث عن "فعل ما" يعطي الزخم لانتخابات الرئاسة المقبلة عام 2012.