يحب الصهاينة كثيراً استخدام تعبيرات مثل "الشعب اليهودي" و"الثقافة اليهودية", وهي إحدى أكاذيبهم المُفضّلة ل"شرعنة" احتلالهم الأراضي العربية.. تلك أكذوبة مفضوحة؛ ولكن مع ذلك؛ فقد صدّقوها وجعلوا الملايين يصدقونها بدورهم. الشعب اليهودي: افتراض أن هناك شعباً يهودياً يتطلّب وجود خط مستقيم للجماعة البشرية اليهودية منذ نشأتها الأولى وحتى اليوم, وهو أمر غير متوفّر بالمرة؛ فما يعتبره الصهاينة شعباً يهودياً هم ببساطة جماعات بشرية كثيرة، متفرقة بين إسرائيل وباقي دول العالم, وكل جماعة منها لها طبائعها وثقافتها المعيشية, وغالباً ما يكون انتماؤها لموطنها وانتماء أفرادها لها أكبر من انتمائها للجماعة اليهودية العالمية؛ إن وُجدَ حقاً شيء بهذا الاسم, وانتماؤها لتاريخ موطنها أكبر من انتمائها لما يُسَمّى تاريخاً يهودياً. وسبب إصرار الكيان الصهيوني على تلك الكذبة، هو إعطاء شرعية تاريخية لمحاولة جمع يهود العالم في الأرض المحتلة؛ باعتبار ذلك "استكمالاً للتاريخ اليهودي القديم", والحقيقة أنه خلال الفترة من انتهاء آخر تجمّع يهودي كبير على أرض فلسطين (135م)، حتى بدء حركات الهجرة لها في القرن التاسع عشر، تفرّق اليهود بين دول عدة وانتماءات عدة، وارتبطوا بها وبتواريخها وثقافاتها, وتعرّضوا لعملية اختلاط عرقي قوي ذابوا خلالها في الشعوب المَضيفة، التي سرعان ما أصبحوا جزءاً منها، بشكل يجعل من العسير إثبات أن إسرائيلي اليوم ينحدر بالضرورة من أحد يهود إسرائيل القديمة. أما على المستوى المكاني؛ فإن الاعتراف بوجود شعب يهودي/ إسرائيلي يتطلب اعتراف كل يهود العالم بانتمائهم هذا, والحقيقة أن هذا ليس متوفراً؛ فالجماعات البشرية اليهودية والتيارات الدينية المختلفة, لا تتّفق حول تلك الفكرة بشكل يعطيها مصداقية؛ فضلاً عن وجود جماعات كاملة ترفض الفكرة من الأساس؛ إما لأسباب دينية تتعلق بتحريم تجميع اليهود في شكل شعب قبل نزول المسيح (ماشيحا) أو لأسباب أخلاقية رافضة للصهيونية ولاغتصاب الأرض المحتلة, أو -بكل بساطة- لاقتناع الكثيرين بأن انتماءهم الأول لأوطانهم لا للرابطة الدينية بيهود من دول أخرى. لا توجد إذن تلك الرابطة الإنسانية التي تصنع الشعب وتعطي وجوده مصداقية. الثقافة اليهودية: أما الأكذوبة الثانية فهي وجود ما يُسَمّى "الثقافة اليهودية"؛ فالثقافة كلمة تعبّر عن كل ما يتعلق بالإنسان من إضافة للحضارة الإنسانية ونمط حياة وإنتاج أدبي وفكري وفني وعلمي, وهذا التعريف ينسف فكرة "الثقافة اليهودية" من أساسها؛ فعلى المستوى المكاني -سالف الذكر- تختلف وتتنوع أنماط وثقافات ولغات وأفكار الجماعات البشرية اليهودية باختلاف ثقافاتها المحيطة, أما على المستوى التاريخي؛ فإن الذين أضافوا للحضارة البشرية من اليهود لم ينظر لهم العالم باعتبار هوياتهم الدينية؛ بل باعتبار انتماءاتهم الوطنية والفكرية؛ فأشخاص مثل: "شارلي شابلن"، و"يعقوب صنوع"، و"آينشتاين"، و"نعوم تشومسكي"، لم يتمّ تصنيفهم كشخصيات يهودية؛ إلا في إطار الحديث عن اليهودية كانتماء ديني لا وطني, أما من حيث الانتماء الوطني فالتصنيف يختلف. ومن حيث الثقافة الحياتية, يختلف اليهودي الروسي عن اليهودي اليمني عن ذلك الفرنسي أو المغربي أو الأمريكي؛ صحيح أنهم يلتقون في نقطة الدين -وحتى هذه تختلف نظرة كل منهم لها- إلا أننا لنصف مجموعة من البشر بأن لهم "ثقافة موحدة"؛ فإن مناطق التشابه الثقافي بينهم ينبغي أن تفوق بكثير نقاط الاختلاف, وهو أمر غير متوفر في الواقع؛ لأنه -بعكس الفكرة الخاطئة الشائعة- ينتمي اليهودي عادة لثقافة مجتمعه؛ حتى وإن تميّز ب"ميزات خاصة" بحكم انتمائه لأقلية دينية مثلاً، أو لارتباطه بالسكن في حي يهودي "جيتو" , أو اشتراكه في جمعيات تضمّ أبناء طائفته, وهذا أمر تتشابه فيه كل الأقليات البشرية في كل مكان في العالم. ربما يتساءل البعض عن سبب عدم الاعتراف بوجود ثقافة يهودية برغم الاعتراف بوجود ثقافة مسيحية وإسلامية, والجواب هو: أن المسيحية في جانبها الجغرافي الشرقي كوّنت بالفعل ثقافة خلال العهد القبطي؛ من خلال وجود جهود منظمة لخلق ثقافة مسيحية مصرية، قادرة على صدّ القهر الثقافي والديني والسياسي الروماني, ثم البيزنطي, وفي جانبها الغربي وُجِدَت جهود منظّمة لإقامة منظومة مسيحية قوية تَرِث السلطة الرومانية عن أوروبا، وتقودها على مختلف المستويات الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية.. أما اليهودية؛ فلم يوجد لها كيان موحّد مستقلّ مستقرّ منذ عصر الإسكندر الأكبر! وأصبحت لكلٍّ منطقةٌ جغرافية وسياسية قيادتها الدينية، إن وُجِدَت، وتأثرت تلك القيادات بثقافات وظروف بلدانها؛ مما يعني أن التاريخ قد توقّف بالثقافة اليهودية عند زمن بعيد لا يمكن الاعتداد به الآن؛ فهي في أفضل التقديرات ثقافة مندثرة, ولا صلة منطقية بين يهود اليوم ويهود الأمس البعيد؛ لنقول بإعادة إحيائها؛ فضلاً عن انتشار التيارات العلمانية في صفوف الجماعات اليهودية داخل وخارج إسرائيل؛ مما يضيّق المجال تماماً أمام وجود ثقافة يهودية معترف بها. الخلاصة: الصهاينة كذبوا الكذبة وصدّقوها, والمشكلة أنهم أقنعوا بها الكثيرين ليكسبوا حشداً عريضاً من المؤيدين والمتعاطفين. والمشكلة الأكبر أن بيننا من صدّقوا تلك الكذبة بدورهم, وراحوا يتعاملون مع اليهود والإسرائيليين باعتبارهم كتلة واحدة؛ دون مراعاة للتنوع الفكري والثقافي والديني والاجتماعي والسياسي بين كل هؤلاء.. والحقيقة أن هذا لا يخدم في النهاية سوى الجهود الصهيونية الرامية لإضفاء المصداقية على ادّعاءاتها التي يُعتبر معظمها أساساً لدولة إسرائيل.