بعدما راحت "الفزعة" وجاءت الفكرة، بدأ البعض يتحدث عن دور الإعلام في التهويل من فرقعة إحراق القرآن، وكيف أنه جعل من الحبّة قبّة، وحوّل القسّ المهووس والمغمور في فلوريدا إلى شخصية عالمية تتجه إليها الأبصار، ويترقب الجميع خطواتها وتصريحاتها، وكيف أن دوائر المتعصبين والكارهين والمتربصين اقتنصت الفرصة، وأرادت أن تحوّل فكرة إحراق المصحف إلى حملة عالمية ضد الإسلام والمسلمين. الآن يقال إن الفتنة كان يمكن وأدها، وإن الرجل لو أُعطِي حجمه فتجاهله الإعلام، أو لم ينفخ في كلامه، ولم يأخذه على محمل الجد لاختلف الأمر، ولما صار عدد الذين يحضرون مؤتمراته الصحفية أضعاف أتباع كنيسته الذين يتراوح عددهم بين 30 و50 شخصا، (كما قال السكرتير الصحفي للرئيس أوباما). وفي حين لم يذكره أحد يوما ما، فإنه وجد نفسه مطلوبا لإجراء 150 مقابلة صحفية خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين، ووجد أن أفكاره وحملته موضوع للمناقشة في أهم الصحف الأمريكية والعالمية. الآن يذكرون أن الرجل تحدّث في عام 2008 عن إحراق المصحف، ودعا الصحيفة المحلية التي تملكها "نيويورك تايمز" في الولاية إلى حضور الحدث، فاتصل مسئول الصحيفة بإدارة الجريدة في واشنطن ليخبرها ويستأذنها، فقيل له: اصرف النظر عن الموضوع؛ فالرجل يريد صخبا إعلاميا لا أحد يعرف مضاعفاته، ولا تريد الجريدة أن تكون طرفا في لعبته، مع ذلك فإنه لم ييأس فلجأ في صيف العام الماضي إلى تعليق لافتة خارج كنيسته حملت عبارة تقول "الإسلام من الشيطان"، ثم أراد أن يلفت الأنظار أكثر، فدفع أتباع كنيسته إلى كتابة عبارات مسيئة للإسلام على قمصان أطفالهم وهم ذاهبون إلى مدارسهم، وهو ما لفت أنظار الصحيفة المحلية، خصوصا حين ظهرت تلك القمصان في أرجاء جامعة فلوريدا، وحين حدث ذلك التقطت وكالة أسوشيتدبرس التقرير وبثّت خلاصة له، ونشرته بعد ذلك صحيفة "يو إس إيه توداي USA Today"، الأمر الذي لفت الأنظار إلى الرجل، خصوصا عندما كتب على موقعه الإلكتروني مقالة قصيرة ردد فيها أفكاره المهينة للإسلام، ودعا فيها إلى إحراق المصاحف في ذكرى 11 سبتمبر، وهي الدعوة التي تلقّفتها المواقع الإخبارية الكبرى (مثل ياهو)، ثم استضافته شبكة سي إن إن؛ حيث وصف المذيع آراءه بالمجنونة. ولكن دعوة الرجل كانت قد خرجت من الإطار المحلي، وترددت أصداؤها الغاضبة في أنحاء العالم الإسلامي، حدث ذلك في الوقت الذي تفجّرت فيه قضية المركز الإسلامي بنيويورك، وقد استغلت أطراف عدة لها حساباتها ومصالحها تلك الأجواء لتوسيع نطاق الحريق على النحو الذي يعرفه الجميع، ويبدو أن بعض المؤسسات الإعلامية انتبهت إلى خطورة الموقف، فقررت الامتناع عن نشر صور حرق المصاحف، وهذا ما أعلنته وكالة أنباء أسوشيتدبرس وصحيفة نيويورك تايمز وشبكة سي إن إن ومحطة فوكس نيوز، وفي وقت متأخر بعد أن تراجع الرجل عن قراره أو علَّقه، ذكرت رئيسة التحرير التنفيذية لوكالة أسوشيتدربرس "كاثلين كارول" أن الأمر كان يمكن أن يُعالج إعلاميا على نحو يطفئ الحريق، لو أن الموضوع احتلّ فقرتين فقط في خبر إحياء ذكرى 11 سبتمبر. المشهد يثير قضية حدود المسئولية في التناول الإعلامي، وهي مسألة دقيقة وسلاح ذو حدين، خصوصا في المجتمعات غير الديمقراطية التي يمكن أن تُستخدم فيها فكرة المسئولية ذريعة للمصادرة والقمع، والمشكلة أن الدول ذاتها يمكن أن تستخدم الإعلام للتضليل (كما حدث في الغزو الأمريكي للعراق)، إضافة إلى أن الأطراف صاحبة المصلحة يمكن أن تستخدمه للإثارة والتهييج وتأليب الرأي العام، (كما حدث في الصور الأخيرة التي سُرّبت لتجريح الدكتور البرادعي، وصورة ما سُمّي بميليشيا الإخوان التي نُشرت على يومين متتاليين في إحدى الصحف "المستقلة"؛ لتبرير الغارة الكبيرة على عناصر الجماعة). مع ذلك فلا مفر من الاعتراف بأن أي شرور تُنسب إلى الإعلام لا يمكن أن تُقارن بالشر الأكبر المتمثل في مصادرته وتكميمه. نُشِر بالشروق بتاريخ 18/ 9/ 2010