إذا عُرِفَ السبب بَطلَ العجب.. هكذا قيل لنا.. وإذا كان الواقع يقول إن للسياسة والحرب والصراعات تعقيداتها التي تجعل من العسير علينا أن نحيط بكل السبب، فهذا لا يمنع أن نبذل بعض الجهد لنزيل قدر ما نستطيع بعضا من العجب.. فلنعترف أن الهجمات التي تعرّضت لها الولاياتالمتحدةالأمريكية في صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001 تميزت في أمور كثيرة عن باقي الأحداث الهامة التي كانت علامات فارقة في التاريخ الإنساني الحديث. ربما يحلو للبعض تشبيهها بضرب القوات اليابانية للأسطول الأمريكي في بيرل هاربور 1941، باعتبار أن كلا الحدثين كان سببا لدخول العملاق الأمريكي في حرب طاحنة وبسطه يد سطوته على مساحات جديدة من العالم، ولأنهما كذلك كانتا المرتين الوحيدتين في تاريخ أمريكا التي تتعرض فيها لضربة مباشرة في العمق، ولكن ثمة فوارق هامة بين الحدثين. فأحداث بيرل هاربور كانت غارة موجّهة من دولة قوية باستخدام قوات نظامية وجّهت ضربتها لأهداف عسكرية لأجل أهداف سياسية وعسكرية محددة ومحسوبة بدقة (تحييد الأسطول الأمريكي عن الحرب). بينما كانت هجمات 11 سبتمبر عملا هجوميا من جماعة مُطارَدة غير نظامية ضد أهداف مدنية؛ لأجل تحقيق هدف عام غير محدد المعالم (تدمير الشيطان الأعظم/ أمريكا). قد يقول البعض إن الأمور لم تتضح بعد وإن ثمة قرائن تقول بتبرئة تنظيم القاعدة من تلك الهجمات. ولهؤلاء أقول -مع احترامي لاختلافهم- أن المتوفر حاليا من معطيات يقول بأن تلك الهجمات من تخطيط وتنفيذ القاعدة بزعامة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. فعلى أساس تلك المعطيات سيكون تحليلي، ومن يدري قد تظهر يوما -وهذا ما أنا واثق منه- معطيات جديدة تقلب تحليلاتنا رأسا على عقب، ولكن لحين ظهور تلك المعطيات، فلتكن تحليلاتنا بناء على ما لدينا. الأسئلة: ولأن الأسئلة هي مفاتيح الفهم، فلنبدأ بطرحها على أنفسنا لتكون أفكارنا أكثر تنظيما: 1- لماذا تم استهداف برجي مركز التجارة العالمي؟ 2- لماذا استُخدِمَت تقنية الهجوم بالطائرات؟ 3- ماذا عن الضحايا المدنيين؟ 4- لماذا ذلك التوقيت؟ 5- ما هدف هجمات 11 سبتمبر؟ السؤال الأول: هذا الهدف.. لماذا؟ مركز التجارة العالمي كان الهدف المدني الوحيد للهجمات، وهو الوحيد كذلك الذي نجحت خطة ضربه بنسبة 100%، وهو أقوى ضربة تلقّتها أمريكا على أرضها بعد الحرب العالمية الثانية، فالسياسة العسكرية الأمريكية تقوم على نقل ساحات القتال خارج أراضي الولايات، لذلك فقد أحدث هذا الهجوم صدمة عاتية على الأمريكيين -سياسيين ومواطنين- لعدم اعتيادهم أو توقّعهم ذلك، بل وامتدت الصدمة للمستوى العالمي؛ حيث لم يتوقع أحد أن يرى يوما عبارة "أمريكا تحت الهجوم America under attack"على شاشات القنوات الإخبارية!. يقول الكاتب الصحفي الأمريكي لورانس رايت إن أسامة بن لادن حين كان يرى مشاهد الضرب الإسرائيلي لبيروت في 1982، ويرى مشاهد العمارات المنهارة والمهدمة، فإنه كان يتمنى رؤية مثل هذا المشهد على أرض أمريكا التي أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لضرب لبنان. ربما يكون هذا تفسيرا نفسيا مقبولا، ولكنه ليس الوحيد؛ فثمة تفسيرات عملية مادية لاختيار هذا الهدف بالذات. فمن ناحية يُعتبر هذا المكان من أكبر التجمعات البشرية في أمريكا، وهو ليس مكانا يسهل الفرار منه أو وصول النجدة إليه كالميادين والمجمّعات الممتدة أفقيا لا رأسيا، ثم إنه يضم تعاملات تجارية بالمليارات، وبه تنوّع من الجنسيات المختلفة، أي أنه بمثابة مجموعة من البَيض جُمِعَت في سلة واحدة.. بمعنى أدق هو الهدف المثالي لأي إرهابي يرغب في إيقاع أكبر قدر ممكن من الضحايا بضربة واحدة قوية. أما الجانب المعنوي من الأمر فهو تعبير هذا المركز عن الثقافة الأمريكية العاشقة لكل ما هو شاهق ضخم، فضلا عن اعتزاز الأمريكيين به كرمز قومي، وكونه يجمع أهل الثقافات المختلفة في أدواره الشاهقة!. بمعنى أدق، الضربة الموجّهة لهذا المكان كانت ضربة للاعتزاز القومي الأمريكي وللثقافة الأمريكية، وتحويلا لهذا المبنى إلى فخ قاتل لكل من كان فيه وقت الهجمات، مما يعكس أن استهدافه لم يكن مبنيا على الرغبة في إرضاء دوافع نفسية بقدر ما كان مستندا على فهم جيد لشخصية هذا المكان، وما يمثله لمختلف فئات الأمريكيين، بحيث يصاب كل منهم بأذى مادي أو معنوي لتدميره، من مواطنين فقدوا أعزاء لديهم ومستثمرين تضرروا ماديا، ووطنيين أمريكيين صُفِعَت عاطفتهم الوطنية... إلخ، ثم إن بن لادن كرجل يعرف جيدا أهمية الأثر الإعلامي لم يكن ليجد هدفا يحقّق ضربه أثرا إعلاميا رهيبا أفضل من مركز التجارة العالمي. السؤال الثاني: الطائرات.. لماذا؟ فكرة اقتحام الهدف بالطائرة ليست بالجديدة، فقد كان المقاتلون الانتحاريون اليابانيون (الكاميكاز) يفعلونها خلال الحرب العالمية الثانية. لكن انتقالها إلى بن لادن جاء من خلال مقاتل عربي تعرّفه في أفغانستان سنة 1994، كان هذا الأخير قد اقترح عليه مساعدته على تنفيذ عملية خطف وتفجير 12 طائرة جامبو أمريكية فوق المحيط الهادي.. لكن لم يخرج ذلك من نطاق الكلام، وإن اجتذبت الفكرة إعجاب بن لادن الذي رأى أن يكون لها استخدام مستقبلي أقوى أثرا. عادة ما ارتبطت أشهر عمليات "القاعدة" بالتفخيخ، أي استخدام سيارة أو شاحنة مفخخة، وجرى استخدام قارب مفخخ في الهجوم على المدمرة الأمريكية "كول" في ميناء عدن. هذا الأسلوب الذي اقتبسه بن لادن من أحد أبرز رجال "حزب الله" -عماد مغنية- خلال لقائهما أثناء إقامة بن لادن في السودان. ولكن فكرة تفجير المركز باستخدام سيارة مفخخة قد تمت تجربتها من قبل وفشلت، وبالنسبة لمبنى البنتاجون (وزارة الدفاع) تعدّ هذه الفكرة عبثا؛ لشدة الحراسة من حوله، إذن لم يكن بد من استخدام الطائرات. وكانت طائرات الركاب هي الخيار الأقوى من فكرة استئجار طائرة، أولا لأن كميات الوقود بطائرات الركاب تكون أكبر مما يسمح بنطاق تدمير أقوى، وثانيا لإمكانية استخدام الركاب كرهائن أو دروع بشرية في حالة فشل المحاولة وإجبار قائدها على الهبوط. ثم إن تنظيما يضم مختلف التخصصات العلمية، وعلى رأسه رجل عمل بالمقاولات، بالتأكيد به متخصصون يفهمون نقاط ضعف المباني، وحسب الخبراء كانت نقطة ضعف البرجين في نقطة لا يمكن الوصول إليها إلا بصاروخ أو طائرة. استخدام الطائرات المدنية في الهجمات أمر يثبت مدى تأثّر القاعدة بأفلام الحركة الأمريكية التي كان بن لادن يحرص على عرض بعض مشاهدها على رجاله للاستفادة مما فيها من تقنيات القتال والالتحام والخداع.. والمثير أن فكرة تدمير مبنى هام بطائرة كانت قد وردت من قبل في رواية أمريكية شهيرة، قام البطل في آخرها باقتحام مقر خصومه بطائرة، في مبادرة انتحارية!. السؤال الثالث: ماذا عن الضحايا المدنيين؟ فلنعُدْ بالزمن بعض القرون للوراء، عندما كان المغول يهاجمون مدن الشام في عهد الناصر محمد بن قلاوون المملوكي. كان أغلب المغول قد أسلموا في السنوات التالية لهزيمتهم في عين جالوت. ولكن بقيت فيهم نزعاتهم للغزو والتدمير والممارسات الوحشية.. وأصبح على جيش سلطان المسلمين أن يخرج لردعهم، ولكن كان الحرج شديدا، فإذا كان مغول الأمس وثنيين فهم اليوم مسلمون، وبعض الأصوات تنادي بأن من الأوجب قبل مقاتلتهم محاربة الصليبيين الذين كانت بقاياهم تسيطر على بعض مدن الشام. هنا جاء الفقيه تقي الدين ابن تيمية بفتوى تقول بجواز مقاتلة الحكام المسلمين الطغاة إذا كانت تصرفاتهم تناقض ما أظهروا من إيمان بالله.. وهدأت بعض الأصوات المتحرّجة، ولكن أصوات أخرى قالت: "وماذا عن إخواننا المسلمين المقهورين منهم؟ ألا يمكن أن تضرّهم سهامنا وقذائف المجانيق المصوّبة إلى مدنهم؟ وماذا عن أهل الذمة والمدنيين الذين حرّم الله ورسوله إيذاءهم؟"، وهنا جاء جواب الشيخ ابن تيمية بأن على هؤلاء القوم -مسلمين وأهل ذمة- الابتعاد عن ساحة القتال ودار الحرب، وإلا فإنهم إن أصيبوا أو قُتِلوا كانوا الجناة على أنفسهم. تلك الفتوى كانت مختصّة بفترة معينة لغرض معين وفي إطار أحداث معينة، ولكن "تاريخية النص" لم توقف أساطين الفتوى المتطرفين، فقاموا بتعميمها على كل الأحوال. يقول الدكتور ماجد موريس -الطبيب النفسي المهتم بظاهرة الإرهاب- إن من أهم سمات المتعصب جموده على النصوص إلى حد تأويلها وتحريفها لصالح خدمة هدفه. وهذا ما كان من القاعدة بشأن المدنيين بشكل عام، فهم يقسّمون العالم إلى "دار الإسلام" و"دار الحرب"، وبالتأكيد فإن أمريكا بالنسبة لهم هي "دار الحرب"، إذن فكل المقيمين بها من مسلمين وغير مسلمين هم من الجناة على أنفسهم بإقامتهم في دار الحرب، مما يعني عدم مسئولية أي إرهابي من القاعدة عن أي بريء يسقط ضحية عملية إرهابية!. ثم إن الأمريكيين لهم وضع خاص عند المتطرفين، فهم -أي الأمريكيين- هم المسئولون عن وجود حكوماتهم المتسلطة، فتلك الحكومات جاءت بعد انتخابات حرة اختار فيها المواطن الأمريكي من يقود بلده داخليا وخارجيا، فهم إذن -من وجهة النظر المتطرفة- مشاركون فيما ينقمه العالم العربي والإسلامي على أمريكا من دعم مطلق لإسرائيل، وتدخّل في شئون البلاد العربية والإسلامية، ودعم للأنظمة القمعية في الشرق الأوسط. ثمة أمر آخر هام، هو أن ضرب المدنيين في العمق السكاني الأمريكي من شأنه استفزاز المعارضة الأمريكية الداخلية للدور الأمريكي الخارجي، واستثارة الشعور الداخلي للمواطن الأمريكي أن ما أصابه لم يكن ليصيبه لولا الدور "الإمبراطوري" الذي تلعبه أمريكا.. وليس من المستبعد أن يكون ذلك الاستفزاز من أهداف القاعدة في ضربها لهدف مدني قوي؛ لخلق حالة سخط داخلي على السياسات الخارجية، وعدم ثقة في قدرة النظام الأمريكي على حماية مواطنيه وأراضيه. لو عايز تعرف لماذا وقع هذا الهجوم في بداية فترة بوش الابن؟.. اضغط هنا.