عندما قرأتُ اسم "قرطاجة" للمرة الأولى كان ذلك في كتاب "أعجب الرحلات في التاريخ" للأستاذ أنيس منصور, في فصل تحدّث فيه عن رحلة حملة "هانيبال" ضد روما، أما المرة الثانية فكانت في أحد أعداد سلسلة فانتازيا للدكتور أحمد خالد توفيق بعنوان "أيام مع هانيبال", وفي المرتين تكوّن عندي انطباع أن قرطاجة كانت مدينة عظيمة لا تستحق المصير المظلم الذي لاقته على يد الرومان الذين دمّروها وأحرقوها "حتى الأرض"، ونثروا الملح في تربتها لتصبح غير صالحة للزراعة أو البناء, وهذا بعد أن أذاقوها الذل بعد هزيمتها أمامهم في معركة "زاما" قبل ميلاد السيد المسيح بنحو قرنين من الزمان. ولكن عندما قرأتُ ثلاثية "ملحمة قرطاجة" للفرنسي "باتريك جيرار", اهتزّ عندي رثائي للمدينة التونسية البائدة, وإن بقيَت عندي المدينة العالمية العظيمة التي لإفريقيا أن تفخر بها، وتمنيت ألا يكون ما حدث بالفعل على نفس شاكلة ما جاء بالرواية. فالمدينة التي أسسها التجّار الفينيقيون على الساحل الشمالي لتونس القديمة, وجمعت بين سكانها مختلف الشعوب والأعراق, كانت نموذجًا لمأساة أُمَّة طعنت نفسها بخنجرها.. وإليكم القصة... "لا يمكن لروماني أن يغسل يديه في المتوسط بدون إذن مكتوب من قرطاجة".. هكذا كانت المقولة -على ما فيها من مبالغة- تُظهِر قوة سيطرة القرطاجيين على البحر المتوسط, الأمر الذي لم تكن روما لترضى عنه, وبالفعل بدأت تلك الأخيرة تتحرّش بسادة البحر، وتدبّر لتقليم أظافرهم وطردهم من نطاق نفوذهم.. ويحكي لنا "جيرار" في أجزاء ثلاثيته بعناوين: "هاميلقار - هنيبعل - حسدوربال" -أسماء القادة الثلاث للكفاح القرطاجي ضد طغيان روما- كيف دار ذلك الصراع الرهيب.
المأساة الثانية هي أن قرطاجة لم يكن لديها جيش وطني, بل كانت تعتمد على كتائب من المرتزقة من إسبانيا وغالة (فرنسا) واليونان ومصر وإفريقيا, وتكتفي بأن تكون القيادة للضباط القرطاجيين, مما كان ينذر في أي وقت بالتعرّض للخيانة أو التمرّد ممن لا يحملون سببًا للولاء لقرطاجة غير المال. أما الكارثة العظمى فكانت في أن حزب المسالمين المذكور كان دائمًا يسعى للتخلّص من القادة البارزين بأن يعاقبهم بالصلب على أبواب المدينة, على أبسط هزيمة يتلقونها, حتى لو كان سجلهم السابق حافلاً بأعظم الإنجازات, وهذا خوف من أن ترتفع شعبية هؤلاء القادة المغدور بهم, فتطغى على شعبية السادة السياسيين الذين كانوا يبتغون دائمًا رضا روما عنهم! في ظلّ تلك الظروف السوداء تدور أحداث "ملحمة قرطاجة". **** الرواية قطعة حقيقة من الفن في الجزء الأول (هاميلقار) نتعرّف على ذلك القائد القرطاجي الفذ؛ حيث تبدأ الأحداث بحالة استرجاعه ذكريات نشأته وتطوّر مساره العسكري والسياسي منذ الطفولة وحتى لحظة بدء الأحداث خلال محاصرته إحدى المدن الإسبانية, خلال حملة قرطاجة للسيطرة على جنوب أوروبا. من البداية يجعلنا الكاتب نتعلّق بذلك الرجل ونتعاطف مع وطنيته الموروثة من أبيه "أدونيبعل" عميد "آل برقا" وواحد من آخر الرجال المحترمين في مجلس الحكم سالف الذكر, وننفعل مع مختلف مراحل معاركه على الجبهتين: الأوروبية ضد أعداء قرطاجة من الخارج, وداخل المدينة نفسها مع أعدائها من الخونة والمتخاذلين من الداخل, ويتصاعد انفعال القارئ بتتابع الأحداث حتى تصل قصة "هاميلقار" إلى محطة نهايته, لتبدأ قصة كفاح ابنه "هنيبعل" الذي تسلّم الراية من أبيه مواصلاً النضال. أما في "هنيبعل" -ثاني أجزاء الثلاثية والذي يحمل اسم بطله- فنحن نقترب أكثر من ذلك الرجل الأسطوري الذي ألهبت مغامرته الحربية في أوروبا مخيلة الأدباء وأثارت حيرة المؤرخين. ونرى قطعة من الفن في المواجهات بين ذلك العقل الفذ وعقل آخر لا يقلّ شأنًا لخصمه الروماني "سيبيو الإفريقي", ويصوغ الكاتب ببراعة تلك العلاقة العبقرية بين الرجلين, والتي تجمع الاحترام والحب مع العداء والخصومة في آن واحد.. وجميعنا -تقريبًا- نعرف كيف كانت نهاية "هنيبعل", إلا أن "جيرار" يحوّل تلك النهاية من مجرد سطر عابر في كتب التاريخ إلى ملحمة مستقلّة بذاتها تستحق الاحترام. بقي الجزء الأخير "حسدروبال"، وهو أيضًا يحمل اسم بطله القائد القرطاجي الأخير, الذي يمت بصلة قرابة ل"آل برقا" المناضلين. هذا الجزء هو الأكثر كآبة وإيلامًا في الرواية, فهو ينقل لنا بدقة قاسية كيف احتضرت قرطاجة ببطء -بعد هزيمتها في معركة زاما- على يد روما المتجبّرة, حتى شعر سادتها -متأخرين للأسف- بأنهم طالما فرّطوا في حق وطنهم فقرروا أن يخوضوا معركة أخيرة لأجله, لكنها للأسف انتهت بالهزيمة والدمار, شأن كل المعارك المتأخرة عن وقتها. الرواية قطعة حقيقة من الفن تمتد لنحو 900 صفحة, والكاتب -المولود في 1950- يستغل عمله الأصلي كمؤرخ وباحث تاريخي ليخرج لنا عملاً متقنًا ينقلنا نقلاً إلى أجواء قرطاجة القديمة.. ولا أجد ما أُنهي به عرضي لتلك الرواية الرائعة سوى واحدة من أجمل ما جاء بها من عبارات: "من يعلم؟ قرطاجة الجديدة ستولد, ولن يكون هذا إلا تحقيقًا للعدالة؛ لأن اسم مدينتنا لا يمكن أن يختفي من ذاكرة البشر. وأفضلهم من سيعلنون أنهم ورثتنا والمكمّلون لنا". الترجمة صادرة عن دار"ورد" ترجمة "هميلقار" هالة صلاح الدين لولو ترجمة "هنيبعل" و"حسدروبال" ميشيل خوري