في السودان سنة 1991 راسلت الحكومة السودانية أسامة بن لادن ودعته للهجرة إليها، كان السودان قد تعرّض توًّا لانقلاب عسكري جناحاه كل من عالم الدين حسن الترابي والفريق بالجيش عمر حسن البشير. وكان الأول يحلم بأن يكون السودان قاعدة لانطلاق دولة إسلامية عالمية تعيد للمسلمين مكانتهم المفقودة. وبالفعل، انتقل "بن لادن" وتنظيمه -القاعدة- إلى السودان، تحت ستار قيام "بن لادن" باستثمار أمواله في أعمال إنشائية عملاقة بالبلد العربي الإفريقي، وساعدته الحكومة بتمليكه أراضي شاسعة صالحة لتدريب كوادره بخصوصية. في الخرطوم، شعر "أسامة" بأنه وجد التربة الخصبة لأفكاره المتشددة، وإن كان لم يسترِح كثيرًا للتعامل مع "الترابي"؛ إذ كان هذا الأخير ذا رؤية أقل تشددًا بمراحل من تلك التي يعتنقها السعودي، ف"الترابي" كان مدافعًا عن مساواة المرأة بالرجل، والسماح بالموسيقى والغناء، ورأب الصدع بين السنة والشيعة، ولذلك كان "بن لادن" يصفه بأنه "رجل ميكافيللي". الغريب أن ذلك الجو الملائم للقاعدة للتدريب والعمل "كاد" أن يُحوّل "بن لادن" لرجل بسيط يبتعد عن أمور الحرب والصراعات، فقد ارتاح للحياة الوادعة التي يقضيها في الزراعة وإدارة الأعمال، وصرَّح أكثر من مرة لمقرّبين منه أنه يُفكّر أن يعتزل حياته القديمة ويعيش حياة طبيعية، وكانت خطبه في أحد مساجد الخرطوم تدعو المسلمين لاكتشاف نعمة السلام وتقديرها حقًا! ولكنه -للأسف- لم يترجم هذه الفكرة العابرة إلى واقع ملموس, في الوقت الذي استمر فيه الوجود الأمريكي في السعودية رغم الانتهاء من تحرير الكويت، بالتزامن مع نزول القوات الأمريكية في الصومال ومرورها من حين لآخر باليمن. كان السودان -آنذاك- جنة المنظّمات المسلّحة: القاعدة، الجهاد المصري، الجماعة الإسلامية، "حماس"، جماعة أبو نضال، بعض كوادر "حزب الله"، وحتى الإرهابي الدولي "كارلوس".. كانت كل تلك التنظيمات تتفاعل بشكل أو بآخر وتتعلم من بعضها البعض. في الخرطوم، تعرّف "بن لادن" على عماد مغنية (من حزب الله) -مهندس العمليات الانتحارية ضد الأمريكيين في لبنان- ومن ذلك تأثّر "أسامة" بفكرة التفجيرات الانتحارية وانجذب إليها، وبالفعل في التاسع والعشرين من ديسمبر 1992 انفجرت قنبلتان في فندقين كبيرين بمدينة عدن اليمنية. كان الانفجاران يستهدفان الأمريكيين الموجودين في اليمن، ورغم عدم سقوط أي أمريكيين في الحادث، نسبت القاعدة العمل لنفسها بفخر! حدث ذلك بالتزامن مع الخطاب الملتهب الذي ألقاه "أبو هاجر" -أحد معاوني "بن لادن"- عن فتوى "ابن تيمية" بجواز قتل المسلم المتواجد قرب أماكن الأعداء، باعتبار أنه وضع نفسه في مكان الخطر بإرادته، فإن كان صالحًا فهو شهيد في الجنة، وإن كان فاسدًا كان مصيره جهنم! وهي الفتوى التي تستند إليها التنظيمات الإسلامية المتطرّفة. (وهو بمثابة تحريف وتأويل لفتوى ابن تيمية، فهو بالتأكيد لم يأمر بقتل الأبرياء). ثم بدأت أصابع القاعدة تظهر في اليمن والجزائر والصومال ومصر بشكل غير مباشر؛ حيث كانت الجماعات المسلّحة في البلدان المذكورة ترتبط بشكل أو بآخر بأحد أو بعض الكوادر الهامة في تنظيم القاعدة المتمركز في السودان. عام 1995 كان "الظواهري" يهدف لتوجيه ضربة قوية للنظام المصري الانحدار سنة 1994 كانت أحداثها شديدة التأثير على "بن لادن"، ففيها بلغ أوج سطوته وتغلغله في الحياة السودانية إلى أقصى درجة, حيث كان لديه كل ما يريد: الدولة المَضيفة، الدعم الحكومي السوداني، والمجاهدون المتدفقون عليه.. ولكنه كذلك كان العام الأكثر صعوبة، ففيه بدأ مؤشر صعود الرجل ينحدر، فقد تعرّض لمحاولة اغتيال من قِبَل مسلّحين أطلقوا الرصاص على بيته، وفورًا أطلق اتهامه نحو الأنظمة العربية التي ينتقدها، وألقى الاتهام المباشر نحو المخابرات المصرية، بينما أشارت بعض الأصابع إلى المخابرات السعودية التي نفت أية علاقة لها بالحادث. وكذلك تعرّض لضربة موجعة، فقد قامت السلطات السعودية -بإيعاز من الولاياتالمتحدة- بمصادرة أمواله في المملكة وحصته في مؤسسة أبيه، مما جعل قدراته المالية تهوي إلى الحضيض، وبالتالي فقد انسحب من جواره عدد غير قليل من أتباعه الذين كانوا يرون فيه "الثري السعودي الذي يحقق الاستقرار المادي لمعاونيه"، وبلغ الأمر ببعضهم أن توجّه لأجهزة المخابرات الشرق أوسطية والأمريكية للتعاون معها ضد سيدهم القديم. أما "الظواهري" فقد استغل محاولة الاغتيال ليفرض المزيد من سيطرته على "بن لادن"، فقد أقنعه بتكثيف الحراسة عليه، وقام بإعادة هيكلة طاقم حرسه مع الحرص على جعل أغلبهم من المصريين الموالين له! في هذه الأثناء، بدأت السلطات المصرية تتبرم من العنف المتسلل إليها من السودان، في إشارة قوية إلى "بن لادن" باعتباره المتهم الرئيسي بتدبير ذلك العنف، ومارست كل من الجزائر واليمن الضغط على السعودية لردع ذلك الرجل الذي تتهمانه بالوقوف خلف التمردات والحوادث الدامية الواقعة فيهما من قِبَل الجماعات الدينية المتطرّفة، وازداد غضب الملك فهد على مواطنه العاصي لأوامره، فقرر في مارس 1994 سحب الجنسية السعودية منه. وعلى المستوى الأُسَري، طلبت إحدى زوجاته الطلاق، وازداد تبرم بعض أبنائه بالحياة الخشنة التي ينتهجها والدهم، وأعلن "بكر بن لادن" -أخوه الأكبر- من السعودية أن عائلة "بن لادن" تخلع "أسامة" منها وتتخلّى عنه غضبًا من أفعاله. المصريون في إبريل 1995 علمت السلطات المصرية أن "الظواهري" قد ترأّس اجتماعًا شهد تحالفًا بين جماعته "الجهاد" ومنافسيه "الجماعة الإسلامية" يهدف إلى توجيه ضربة قوية للنظام المصري بغرض اغتيال الرئيس وخلق فراغ في السلطة، ثم الاستيلاء على السلطة خلال الانتخابات البرلمانية، وعلمت كذلك أن السلطات السودانية تمد هذا التحالف بالسلاح والدعم الكامل في محاولة لتصدير ثورة الترابي الإسلامية إلى مصر. وبالفعل، تم تنفيذ محاولة لاغتيال الرئيس المصري في العاصمة الإثيوبية في السادس والعشرين من يونيو 1995، ولكن المحاولة فشلت، وكانت فضيحة للحكومة السودانية التي وجدت نفسها متهمة أمام العالم برعاية الإرهاب، وخاضعة لعقوبات اقتصادية عنيفة. وهنا، قررت السلطات المصرية أن الوقت قد حان لتوجيه ضربة قاصمة للوجود الإرهابي في السودان. وبخدعة قوية، تم تجنيد ابنين حديثي السن لرجلين بارزين في تنظيمي القاعدة والجهاد، وتدريبهما على زرع أجهزة التجسس وتصوير المستندات، وبالفعل كان تعاون الغلامين قويًا ومساعدًا للسلطات المصرية في اجتثاث جذور قوية للإرهاب في مصر. بداية من عام 1996 كانت الضغوط تتزايد على نظام "البشير" للتراجع عن دعم الإرهاب بعد ذلك قررت السلطات المصرية استخدام عميليها في عملية لاغتيال "الظواهري" الذي كان يعالج أحدهما من الملاريا، ولكن في اليوم المقرر لذلك لم يأتِ الرجل، فتم تأجيل العملية ليوم آخر، وبالفعل تم إعطاء أحد العميلين -واسمه "مصعب"- قنبلة لاستخدامها في اغتيال "الظواهري" وبعض أعوانه خلال أحد الاجتماعات، ولكن بطريقة ما بلغ الخبر المخابرات السودانية، وقامت باعتقال الفتى وزميله الآخر، وسمحت ل"الظواهري" باستجوابهما، واعترفا له بكل ما كان. ورغم اعتراض الكثير من أفراد "الجهاد" و"القاعدة" على رغبة "الظواهري" في محاكمة الغلامين، قام بمحاكمتهما وأمرهما بخلع ملابسهما للتأكّد مما إذا كانا قد بلغا أم لا، وعند تأكّده من بلوغهما قام بإعدامهما فورًا مصورًا ذلك على شريط فيديو قام بنشره في كل مكان. هنا ثارت ثائرة الحكومة السودانية التي رأت في تصرّف "الظواهري" نوعًا من التعامل باعتبار أنه ورجاله دولة داخل الدولة، فقامت بطردهم فورًا خارج البلاد، فتناثر رجال جماعة الجهاد بين اليمن وأفغانستان والأردن، وانشقّ معظمهم عنها حتى لم يبقَ منها سوى ما لا يزيد على المائة رجل، وهكذا تم تمزيق تنظيم الجهاد. ولكن.. كان لدى البقية الباقية من "الجهاد" رمق أخير، فقاموا بتوجيه ضربة إرهابية عنيفة أطاحت بسفارة مصر في باكستان، وأسقطت ستة عشر قتيلاً وستين جريحًا.. ولكن أصداء هذه العملية في واقع الأمر كانت بمنزلة ضربة من التنظيم لنفسه، فقد استاء كثير من بقايا رجاله من فكرة قتل المدنيين، وازدادت حركة الانشقاق عنه. الطرد في بداية عام 1996، بدأ الحديث في السودان عن فكرة "طرد بن لادن من البلاد". كانت الضغوط الدولية تتزايد على نظام "البشير" و"الترابي" لإظهار حُسن النوايا والتراجع عن دعم الإرهاب، وكانت العقوبات الاقتصادية تطحن اقتصاديات الدولة طحنًا، إضافة إلى فرض العزلة الدولية عليها.. وفي آخر ليلة للسفير الأمريكي في الخرطوم، تناول العشاء مع نائب الرئيس السوداني ولمّح لإمكانية تحسين سمعة النظام السوداني من خلال عدة سبل منها تسليم "بن لادن" للسعودية، وبالفعل جرت المفاوضات حول ذلك الاقتراح بين السودانيين والأمريكيين، مع اقتراح إضافي بتصفية الخلافات بين "بن لادن" والنظام السعودي ومنع محاكمته أو سجنه، ولكن كان النظام السعودي يرفض ذلك الاقتراح، ربما تحت الضغط المصري القوي المطالب بمحاكمة أسامة بن لادن لضلوعه في أعمال الإرهاب على الأرض المصرية. وأخيرًا، قلبت الحكومة السودانية وجهها عن صديقها السابق، وتم ترحيل "بن لادن" إلى أفغانستان، وقامت بالاستيلاء على كل ممتلكاته وأمواله الطائلة التي استثمرها ووضعها لدى السودانيين.. والغريب أن أمريكا كانت في البداية موافقة تمامًا على فكرة انتقال "بن لادن" لأفغانستان.. أمريكا التي حمّلها "أسامة" مسئولية ما جرى له من تدمير لمملكته في السودان.. ومن ثم بدأ يُفكّر بشدة في توجيه ضربة موجعة لها للانتقام.. ليدخل الصراع بينه وبينها في فصل جديد! (يُتبع) اقرأ أيضاً: البُروج المُشَيَّدة.. القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر أسامة بن لادن.. "المرعب" ميلاد القاعدة: أجواء دامية ماديا ومعنويا