إذا كان عقلك يراودك بأن تكون مصوراً صحفياً؛ فيجب عليك أن تختار بلداً آخر غير فرنسا كي تمارس فيه هوايتك ومهنتك في الوقت ذاته. "لكل شخص الحق في الخصوصية" تلك الجملة التي ذكرتها لتوي هي قانون كامل في فرنسا؛ هكذا وبكل بساطة، لكل فرد الحق في الخصوصية، والمهتم بالشئون الفرنسية سوف يعرف أن قانون الخصوصية الفرنسي هو واحد من أقسى القوانين الأوروبية وأكثرها صرامة في أوروبا. ففي فرنسا، لا يحق لك أن تقوم بتصوير أي سياسي أو شخصية عامة وهو يمارس حياته الخاصة؛ فلا يمكنك أن تصوّره مع زوجته أو صديقته أو ابنته، وإذا فعلت فالقضاء والغرامات المالية الباهظة سوف تلاحقك ولن تتوانَ عن حبسك أو تغريمك كل ما تملك. مجلة "باري ماتش" واحدة من أكثر المجلات الفرنسية التي طُبّق عليها قانون الخصوصية الفرنسي وغرّمت العديد من المرات. قد تظن للوهلة الأولى أن المجلة تصوّر أشياء غير حقيقية أو ملفّقة أو ربما مخلّة بالآداب كما هو الاعتقاد السائد لدينا؛ خاصة بالنسبة للصحف التي اصطلح على تسميتها بالصحف الصفراء؛ ولكن الوضع مع "باري ماتش" مختلف، "باري ماتش" تقوم بتصوير الحقيقة ولكنها تدفع كثيراً لأنها لا تحصل على إذن للحصول على الحقيقة. وزير الميزانية الفرنسي "فرانسو باروين" كان من بين كثيرين علّموا "باري ماتش" كيف يحصلون على إذن للحصول على الحقيقة؛ وذلك عندما التقطوا صوراً له بصحبة صديقته الممثلة ميشيل لاروك، وظهرا على غلاف المجلة تحت عنوان "ثنائي السياسة الجديدين المتألقين"، وبالتالي قام "باروين" بمقاضاة الصحفية. "سيجولين رويال" -مرشّحة الرئاسة الفرنسية سابقاً- كانت من ضمن قائمة المشاهير الذين قاضوا الصحيفة التي نُشرت صوراً لها بصحبة صديقها الجديد، وأجبرتها على دفع غرامة مالية قدرها 50 ألف يورو، أي ما يقرب من 750 ألف جنيه مصري. أمير موناكو الأمير "ألبرت الثاني" هو الآخر رفع دعوى قضائية مماثلة ضد "باري ماتش" لنشرها صوراً لابن أنجبه من علاقة مع امرأة أمريكية خارج نطاق الزواج، ومنحته المحكمة تعويضاً قدره 50 ألف يورو. بعض المثقفين الفرنسيين يرون في قانون الخصوصية أقرب لموروث الثقافة الفرنسية الذي اتُّفق عليه منذ الثورة الفرنسية واعتبروه واحداً من المبادئ الإنسانية المقدّسة التي يجب مراعاتها. ولكن الاستثناء الوحيد الذي يمكن أن يوقف فيه تفعيل هذا القانون هو إذا قامت الصحيفة بتصوير حدث أو شخص في حياة الشخصية العامة، يؤثر بالضرورة على منصبه السياسي أو منصبه العام. الوضع يبدو للوهلة الأولى ظالماً للغاية ويعطي إيحاء خاطئاً بأن الظلام الدستوري يرفرف بكافة أجنحته على سماء باريس؛ ولكن القصة كلها تكمن في أن الأوروبيين -وعلى رأسهم الفرنسيين- يؤمنون بحرية أن يفعل كل شخص ما أراد، طالما لا يضر بأحد أو بمنصبه، وأن ذاك الأخير ليس مبرراً أن يسلبه متعته وحياته الشخصية. لكن عند مقارنة هذا الوضع بنظيره المصري سوف نجد أن في مصر يُمنع الصحفيون من تصوير الأحداث السياسية والرسمية لأسباب تتعلق بأيدلوجيات الصحف التي يمثّلونها (راجع اجتماعات الحزب الوطني التي مُنعت فيها الصحف المستقلة من حضور اجتماعاتها، واقتصرت فحسب على الصحف القومية).. هذه القوانين تطبّق لأنهم في أوروبا يجيدون الفصل بين حياتهم الشخصية والعامة أما في مصر؛ فالحياة الشخصية هي جزء من حياتهم العامة؛ فعندما ينتشر اللب بين الوزراء في مجلس الشعب فوقتها لا ينفع قانون الخصوصية، وعندما ينام الأعضاء أثناء اجتماعات مجلس الشعب فوقتها لا ينفع قانون الخصوصية. في فرنسا القوانين توضع كي تنفَّذ.. أما في بلاد أخرى؛ فهي تفصل حسب مقاسات أصحابها