ما مِن شك في أن كلاً منا يُدرك أن هناك حساباً.. ويُدرك أنه حساب عادل.. وكل منا -بكل تأكيد- ينتظر يوم الحساب.. ويخشاه.. ولأننا نخشى يوم الحساب، فنحن نبذل قصارى جهدنا، حتى نتجاوزه في سلام؛ لأن العكس رهيب.. ومخيف.. وأبدي.. وهذه ليست المشكلة؛ لأننا جميعاً نتفق فيها.. ففيمَ نختلف إذن؟! الواقع أننا، بخلاف إيماننا بحتمية وعدل الحساب، نختلف حول الحساب نفسه، حتى في أسلوب تعاملنا معه.. فبعضنا يبتسم في وجوه الآخرين، مدركاً أن الابتسامة صدقة، وكل صدقة تمنحك ثواباً، وكل ثواب يزيد من حسناتك، ويُخفف من سيئاتك، ويزيد من فرص دخولك الجنة.. وبعضنا يتجهم في وجوه الآخرين، متصوّراً أن الابتسام ينقص من قدره، ويُقلل من قيمته، ومن احترام الناس له.. أو يتصوّر أنه بهذا يتفادى لهو الحياة.. وينغمس في ملكوت الخالق عزّ وجلّ.. ويزيد من حسناته.. ومن ثوابه.. ومن فرص دخوله الجنة.. كلاهما إذن استهدف الأمر نفسه.. وكلاهما سعى للثواب نفسه.. وكلاهما تمنّى دخول الجنة.. ولكن كل منهما سار على عكس الآخر تماماً.. وهناك من يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتعامل مع من يدينون بديانات أخرى برفق، ودون أن يكون فظًّا أو غليظ القلب؛ لأنه يرى أن الناس تؤمن بدينه، إذا ما شاهدت منه كل جميل، وعهدت فيه كل رفق ورحمة.. وآخر يرى أن غيرته على دينه تحتم عليه أن يكون شرساً عنيفاً غليظ القلب، مع كل من يدين بدين آخر.. وأن يتجهم في وجوههم.. ويعترض شعائرهم.. ويهاجم طقوسهم.. بل ويتمادى البعض إلى تصوّر أنه من الضروري أن يكرههم؛ حتى يُثبت لنفسه -قبل الآخرين- أنه يؤمن بدينه.. الذي تعامل في رفق فعلها من أجل دينه.. والذي تجهم في غلظة أرادها من أجل دينه.. ولكن مَن منهما على صواب؟! مَن؟! ومرة أخرى.. مَن؟! هذا ما نختلف عليه كلنا، وما نتصارع من أجله، وما ننسى ديننا نفسه، ونحن نقاتل في شراسة لتأكيده.. والسؤال هو: لماذا؟! المنطق العقلاني للأمور يقول: إنه لحسم مثل هذا الخلاف، علينا أن نعود إلى المنهج الذي ينبغي أن نسير عليه، وإلى الدستور الذي ينبغي أن نلتزم به.. والدستور هنا واضح صريح، وأتى فيه أسلوب التعامل الشرعي واضحاً مباشراً.. وبفعل أمر أيضاً.. ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.. وقبل أن نناقش عظمة الآية، وكل كلمة منها، دعوني أطرح سؤالاً هاماً للغاية.. من سندعو إلى سبيل ربنا سبحانه وتعالى بالضبط؟ الذين آمنوا به وبدينه، أم الذين لم يؤمنوا به وبدينه؟ الجواب يبدو واضحاً صريحاً.. سندعو إلى سبيل ربنا عزّ وجلّ، من لم يهتدِ إليه بعد.. وما الذي يقودنا إليه هذا؟! ببساطة.. الآية تدعونا إلى أن ندعو غير المؤمنين، إلى سبيل الله عزّ وجلّ بالحكمة.. وبالموعظة الحسنة.. والحكمة هنا أمر يستلزم الكثير.. والكثير جدًّا.. فالحكمة أوّلاً، تتعارض مع الغضب والانفعال والتعصّب والحدّة.. الحكمة تعني هدوء النفس.. وحساب الأمور في تروٍّ.. ودراسة أبعاد كل موقف وكل تصّرف.. ونتائجه أيضاً.. ليس على المدى القريب فحسب، ولكن على المدى البعيد أيضاً.. والبعيد جداً أيضاً.. ولديّ هنا مثال، لن أملّ مِن ترديده وتكراره أبداً.. رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عندما فتح مكة، وأتى بمن عذّبوه، وعذّبوا قومه، وكل من آمن بربه العلي القدير، وأخرجوهم من ديارهم.. أتى بهم أمامه، وهو في موقف المنتصر.. هو عزيز.. وهم أذلة.. الذين ينادون بالغضب والعنف من أجل الدين، لو كانوا في هذا الموقف لأطلقوا لنزعاتهم العنان، ولقتلوا وعذّبوا، وقطعوا الرقاب، وضربوا الأعناق؛ انتقاماً لما فعل هؤلاء بقومهم.. ولكنه، صلوات الله وسلامه عليه، التزم بدستوره العظيم.. بالحكمة والموعظة الحسنة.. لقد وقف أمامهم، يسألهم: "ماذا تظنون أني فاعل بكم"؟! وفي انكسار ومذلة، أجابوه: "أخ كريم، وابن أخ كريم".. أي إنهم كانوا يستعطفونه الرفق بهم، مدركين أنهم لو كانوا في موضعه لما عفوا أو رحموا.. فهذه كانت شيمتهم.. وهكذا كانوا يروْن سبيل حماية معتقداتهم.. ولكنه فاجأهم بدستور دينه الجديد.. فاجأهم بدين الرحمة.. والحكمة.. والتروّي.. وكظم الغيظ.. والعفو عند المقدرة.. فاجأهم، وهو يقول لهم: "اذهبوا، فأنتم الطلقاء".. فاجأهم.. وبهرهم.. وألجم ألسنتهم.. وأطلق عقولهم بفكرة واحدة.. أي دين هذا، الذي تبلغ فيه الرحمة والسماحة هذا الحد؟! أي دين؟! واقتربوا من الدين.. وسعوا لمعرفته.. ودخلوا في دين الله "سبحانه وتعالى" أفواجاً.. وللحديث بقية،،،