فَذاكَ وطني - "العرب كانوا غزاة مَثَلهم مَثَل الرومان والتتار وغيرهم، ما الذي أخرجهم من صحرائهم إلا الطمع في ثروات جيرانهم؟ إن حجة خروجهم لتحرير الشعوب المظلومة تبدو مثالية أكثر من اللازم!". تأملتُ صديقي قائل العبارة السابقة، وابتسمت وأنا أنظر للكوفية الفلسطينية المحيطة بعنقه وصورة جيفارا على التي-شيرت الذي يرتديه.. جيفارا الذي قال: "أينما وُجِدَ الظلم فذاك وطني!". كنتُ أحاول فهم سبب رفض البعض لمسألة وجود هذا المبدأ المثالي منذ أكثر من ألف سنة.. نعم، فالمبدأ الذي جعل الثائر الأرجنتيني العظيم يترك بلاده ويحارب في كوبا وبوليفيا والكونغو، هو الحفيد المتأخر لذلك المبدأ الإنساني النبيل الذي جعل العربي يحمل سيفه ويحارب ظلم الفُرس والروم في الشام والعراق ومصر. مبادئ عولمة العرب والمسلمين نعم.. فمن البداية زرعت رسالة الإسلام في ضمائر أتباعها أنهم رُسُل العدالة والخير والسلام للعالم كله، فالخطاب القرآني أكّد على ذلك من خلال توجيهه الحديث أكثر من مرة بالقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بُعِثَ "للناس كافة"، مما كان يعني بوضوح أن مهمة المسلمين لا تقف عند حدود جزيرة العرب فحسب، وأضاف القرآن تأكيده أن {مَنْ شَاءَ فلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} في أمر صريح وواضح للمسلمين ألا يُجبروا أحدًا على اعتناق دينهم. أما الدليل الآخر على أن خروج المسلمين للغزو لم يكن عن طمع مُطلق فهو أن ما أخذوه من خراج الأراضي المفتوحة وجزية حماية أهل الذمة لم يكن شيئًا يُذكَر إذا قورن بما كان يسلبه الفُرس والرومان من مستعمراتهم، بل إن التاريخ يسجّل -أكثر من مرة- تنازُل العرب عن الجزية كمقابل للحماية في حالة مشاركة أهل البلد المفتوح في الحرب إلى جوارهم، وكذلك في حال اضطرار المسلمين للانسحاب من البلد، كما حدث في حِمص عندما أعاد أبو عبيدة بن الجراح الجزية لأهلها لاضطراره للخروج بجيش المسلمين من بلدهم. لماذا السيف؟ لو كنت -عزيزي القارئ- لم تتعب من تنقلك بخيالك عبر الزمن، فتعالَ معي ننظر بشكل واسع لخريطة التاريخ، لو نظرت شمالاً نحو اليونان القديم، ودخلت معي تلك الزنزانة الكئيبة في أثينا، لوجدت رجلاً ضخم الجثة، دميم الملامح يجلس بهدوء بين تلاميذه وبيده كوب يحتسي ما فيه.. هذا الرجل اسمه "سقراط"، والكوب الذي يشرب محتواه بهدوء هو السُم الذي قُضِيَ عليه بالموت به.. فقط لأنه نادى بتحرير العقل من الجمود والتخلف، وطالب بالبحث والتفكير والسعي وراء الحقيقة.. تعالَ ننتقل جنوبًا، إلى مصر، هل ترى ذلك الرجل الهزيل وقد أحاط به أعداؤه من كل جانب في قلب قاعة عرشه؟ أنصِتْ إلى أنفاسه جيدًا، فهي الأخيرة، فكونه فرعون مصر "إخناتون" ابن ملكها السابق العظيم "أمنحتب الثالث" لا يشفع له عند الكهنة والقادة أن يُترَك ليبشر بدين جديد يجمع الناس كلهم -لا المصريين فقط- تحت راية إلهٍ واحد. أما إذا انتقلنا شمالاً، إلى فلسطين، فمن المؤكد أنك ستُصدَم وأنت ترى شابة فاتنة تمسك بطست من فضة عليه رأس مقطوع لرجل كان اسمه "يحيى بن زكريا"، صوت صارخ في البرية ينادي في الناس أن توبوا؛ فقد اقترب ملكوت السماء! ولو اختصرت معي بعض السنوات لتضاعفت صدمتك وأنت ترى كهنة رب بني إسرائيل التُّقاة يتحدثون ببساطة عن سفك دم مسيحه -عليه السلام- لأن حديثه لا يروق لهم! وعبر تلك الرحلة الطويلة ستسمع أنات الآلاف من المصلوبين والمعذبين والذين ألقوا للنار والوحوش المفترسة عبر السنين؛ لأنهم مارسوا حقهم العادل في حرية العقيدة. والآن.. عُد إلى زمنك واسأل نفسك، ألم يكن قد آن الوقت للدعوة الجديدة المولودة في قلب أرض محاصرة من كل جانب بالدول العظمى وجيوشها وجبروتها، أن تتعلم الدرس ممن سبقوها من فلاسفة وأنبياء، وأن يكون السيف في يدها لا لتفرض نفسها به، ولكن لتحمي حق أتباعها في تقرير المصير؟ كان هذا أمراً فرض نفسه، فرغم جنوح المسلمين الأوائل للسِلم مع الأمم المجاورة جوبهت دعوتهم بالعداء؛ فكِسرى مزَّق رسالة النبي إليه، وأمر حاكمه على اليمن بالقبض عليه وإرساله مكبلاً إلى المدائن، وقيصر قام أحد ولاته على الشام بقتل رسول رسول الله إليه، واضطهد رجاله القبائل العربية المقيمة على حدود الشام والتي اعتنق أبناؤها الإسلام، فلم يكن من بدّ من إظهار أبناء الدين الجديد أن على الأنظمة الطاغية التي احترفت اغتصاب حرية الإنسان في اختيار مبادئه وأفكاره أن تزول ليحل محلها نظام جديد يكفل تلك الحريات. الجانب الآخر الفارق الآخر بين فتوحات المسلمين وغزوات الفُرس والرومان والأمم الأخرى، كان في ترحيب شعوب البلدان المفتوحة بالفاتحين الجدد. فأهل الشام والعراق -بالذات المناطق المتاخمة لجزيرة العرب- اعتبروا الحرب حرب تحرير لهم بحكم كونهم عرباً في الأساس، مما جعل كثيراً منهم ينضمون لصفوف الجيش العربي، بل وتولى بعضهم -في مراحل تالية- مهام قيادية في الفتوحات التالية. وأما في مصر فقد أمر البطريرك بنيامين -أبو الكنيسة القبطية آنذاك- الأقباط أن يمدوا يد العون ل"أبناء إسماعيل" القادمين من الصحراء، فكان من الأقباط من يساعد جيش عمرو بن العاص ببناء الجسور والقناطر لعبور الجنود، وكان منهم من يشارك العرب المعارك بإثارة الثورات والاضطرابات ضد البيزنطيين؛ ليكون الجيش البيزنطي بين مطرقة العرب وسندان المصريين. أما عن باقي الأقطار -بالذات الآسيوية منها- فقد لاحظ المؤرخ الأمريكي "هيو كينيدي" مسألة أكد عليها وهي أن كثيراً من البلدان انضمت من تلقاء نفسها للإمبراطورية العربية الإسلامية، وهي المسألة التي يدلل عليها زميله المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون بأنه حتى الأمم التي تغلبت أحيانًا على العرب فيما بعد -كالأتراك والمغول- سرعان ما اعتنقت الإسلام، وذابت في نسيج الدولة العربية الإسلامية الكُبرى، ووضعت إمكانياتها البشرية في خدمتها، وهي مسألة لم تكن لتتحقق لولا وجود عناصر الجذب والاندماج في بنيان العرب والمسلمين. جملة اعتراضية.. عن السعي خلف الثروات نتحدث هنا يجب أن تكون لنا وقفة مع الاتهام الموجّه للعرب بأن البحث عن الثروة كان وراء خروجهم للغزو. دعونا نعترف أولاً أن العرب المسلمين بشر كأية أمة أخرى، وقد كان قانون العالم آنذاك أن تغزو أو تُغزَى، كما كانت مسألة مبادرة الأمم الناشئة جيرانها بالغزو مسألة عادية مقبولة، أما ما كان محلاً للقبول أو الرفض فهو أسلوب سياسة الأمة الفاتحة لرعاياها الجدد. ومن الخطأ أن نُقَيِّم أحداث الأزمان الماضية بمقاييس عصرنا الحالي، كما أنه من الخطأ أيضًا أن نتشبث بتفسير واحد فقط للأحداث؛ فالدوافع تكثر وتتنوع، ومن الوارد أن يكون بين المسلمين من خرج للغنيمة وثانٍ خرج للجهاد وآخر خرج لهما معًا. أما دوافع السلطة السياسية للغزو فهي كذلك متنوعة عبر العصور، فبينما كانت في الفترة الأولى للإسلام مرتبطة بالجهاد لنشر الدين وتحرير الشعوب، فقد ارتبطت في الفترات التالية بدوافع أخرى كتحقيق المجد الشخصي أو إثراء الدولة أو الجهاد في سبيل الله، والمقياس هنا هو أسلوب التعامل مع الأمم المغلوبة -كما سلف القول- فإن غلب عليه التسامح الديني والتساهل فيما يخص جباية الخراج والجزية، كان هذا يعني تغليب الدافع الديني، أما لو ارتبطت الغزوات بالسلب والنهب فهنا يكون الدافع الدنيوي أقوى، ولكن المُلاحظ -بشهادة المعاصرين للفتوحات- هو غلبة الدافع الديني المعنوي؛ إذ إن أية وقائع للمبالغة في فرض الضرائب بأنواعها وجبايتها، كانت عادة مرتبطة بأحداث فردية عانت منها كل فئات المجتمع -من عرب ومسلمين وغيرهم- بسبب جشع الحاكم أو سوء إدارته أو تعصبه الديني تجاه أهل الذمة. وعادة ما كانت الثورة على هذا الحاكم تخرج من صفوف الشعب كله بكل عناصره. وكثيرًا ما كان الخليفة يعزل هذا الوالي أو ذاك، وربما يعاقبه بالحبس أو المصادرة، لو خالف روح العدل فيما يخص جمع الأموال. مما يعني انتفاء سيطرة دافع الطمع المادي على خروج المسلمين للغزو. الخلاصة: إذن فحروب نشأة النظام العالمي العربي الإسلامي لم تكن موجهة ضد الشعوب بل ضد طغاتها. وهذه هي إجابة السؤال الذي طرحته في نهاية الجزء الماضي "كيف أسقط العرب النظام العالمي السابق؟" والإجابة هي أنهم قد أسقطوه بعناصر فساده، وبأن جاءوا للعالم بنظام جديد عادل أثار حماسة المقهورين للانضواء تحت رايته، فكان في هذا عوضٌ كبير عن الافتقار للعتاد المتوفر عند العدو. بالتأكيد كان للعناصر المادية المتمثلة في التسليح والخطط البارعة والخداع الاستراتيجي دورها العظيم الذي لو غاب لما تحقق أي إنجاز، ولكننا هنا لسنا في محل للحديث عن فنون الحرب والقتال بقدر ما نعنى بالحديث عن التغيير الذي حمله العرب معهم لإخوانهم في الإنسانية، وجعل هؤلاء الإخوان بمثابة جيش آخر وضع نفسه في عون الجيش العربي، فعوَّض فارق القوة المادية بين العرب وخصومهم الطغاة، وأثبت للعالم أن مجرد اتفاق الإرادة بين المطالبين بالحرية -سواء كانوا محرِّرين أو محرَّرين- من شأنه إحداث انقلاب عنيف في موازين القوى.. ولكن هذا ليس كل شيء.. فعولمة العرب كما تميزت بالعدالة السياسية والدينية، تميزت بأمر لا يقل أهمية لم يوجد في نظام عالمي من قبل أو من بعد، هو التنوع الثقافي والعرقي فيمن قادوا النظام العالمي العربي الإسلامي... (يُتبَع) مصادر المعلومات: 1- البداية والنهاية: ابن كثير. 2- تاريخ بن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون. 3- مصر القديمة في عيون حديثة: د.جمال بدوي. 4- مسلمون وأقباط من المهد إلى المجد: د.جمال بدوي. 5- حضارة العرب: جوستاف لوبون. 6- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان. 7- حسن المحاضرة في ملوك مصر والقاهرة: جلال الدين السيوطي. 8- جزيرة العرب قبل الإسلام: برهان الدين دِلُّو. 9- فلاسفة أيقظوا العالم: د.مصطفى النشار. 10- قصة الفلسفة اليونانية: د.أحمد أمين - د.زكي نجيب محمود. 11- فجر الإسلام: د.أحمد أمين. 12- موسوعة تاريخ العرب: عبد عون الروضان. 13- الخطر الإسلامي خرافة أم حقيقة: جون ل. إسبوزيتو. 14- الفتوح العربية الكبرى: هيو كينيدي. 15- مصر القبطية: محمود مدحت. 16- الوثنية والإسلام: ك. مادهو بانيكار. 17- بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس. 18- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغري بردي. 19- شمس العرب تسطع على الغرب: د.زيجريد هونكه. 20- الإسلام في عيون غربية: د.محمد عمارة. 21- أطلس التاريخ العربي الإسلامي: د.شوقي أبو خليل. 22- أطلس تاريخ الإسلام: د.حسين مؤنس. 23- تاريخ الخلفاء الراشدين: د.محمد سهيل طقوش. 24- العالم البيزنطي: ج. م. هسي. 25- تاريخ مصر في العصر البيزنطي: د.صبري أبو الخير سليم. 26- تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: د.عمرو صابر عبد الجليل. 27- المسلمون وأوروبا: د.قاسم عبده قاسم. 28- اللاهوت العربي: د.يوسف زيدان. 29- الإسلام رمز الأمل: هانز كونج. 30- محمد نبيّ لزماننا: كارين أرمسترونج. 31- تاريخنا المفترى عليه: د.يوسف القرضاوي. 32- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار. 33- خلفاء الرسول: خالد محمد خالد. 34- المسيح عيسى بن مريم: خالد محمد خالد.
اقرأ أيضاً: حرب العولمة (6).. العرب مارسوا العولمة سبعة قرون في أوروبا.. حرب العولمة (5).. أهل مصر اخترعوا القبطية لوقف انتشار اللاتينية حرب العولمة (4).. عندما استدعى المصريون مصاص الدماء الروماني حرب العولمة (3).. المصريون طالما بجّلوا مستعمريهم حرب العولمة(2).. أو أرمجدون الجديدة حرب العولمة(1).. أو أرمجدون الجديدة